الاثنين، 13 أبريل 2015


محمود البدوى ـ قصص قصيرة ـ قصص مصرية ـ قصص عربية ـ الأدب المصرى ـ الأدب العربى ـ الزلة الأولى



 نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان







الليل والرجل

دخل همام بحصانه الاسطبل يتلمس الطريق فى الظلام .. وكان قد تأخر فى الحقل حتى نام جميع الخدم فى الدار .. فسحب الحصان وراءه فى ذلك المجاز الطويل المعتم حتى وصل إلى قلب الحوش .. حيث يسقط نور ضئيل من المنور .. وكانت المواشى فى دائرة كبيرة أمام المخاول .. ورأى عندما اقترب من مرابط الخيل نور مصباح بترولى تهتز ذبالته وعلى ضوئه الخافت جلست الخادمتان ناعسه ونرجس تحلبان البهائم .. حلبة نصف الليل .. وكانتا تجلسان القرفصاء وقد وضعت كل منهما القدر تحت الضرع .. وأخذت تحلب .. وسمع صوت اللبن وهو يتدفق فى خيوط بيضاء طويلة .. ورأى سيقان الفتيات والخلاخيل الفضية فى أرجلهن وشعر بشىء يلهب حواسه .. ونظر إلى خادمته نرجس وكانت جميلة بيضاء .. وقد غطت ساقيها .. وانتصبت وجرت نحوه وقالت وهى تتناول لجام الفرس من سيدها ..
ـ أمال فين دردير .. يا سيدى .. جايب أنت الحصان بنفسك وداخل الحوش ..
ـ معلهش يا نرجس .. لازم .. تعب .. ونام ..
ـ من ساعت ما سفرت .. وأنت تعبان يا سيدى .. ربنا يرجعها بالسلامة ويجيبلك ولد .. علشان نغنى ونفرح كلنا يا رب ..
***
ودخل البيت .. وخلع ملابسه وصلى وتعشى وتمدد على الفراش يدخن سيجارة كعادته قبل أن ينام .. وجاءت له الخادمة فطوم بالمدفأة التى اعتاد أن يدفىء بها الحجرة فى الليالى .. الباردة .. فجلس يصطلى ومد رجليه ويديه إلى النار .. وكان همام مزارعا من أحسن المزارعين ترك المدرسة عندما مات والده وجاء إلى الحقل .. ومن وقتها وهو يعمل فى الحقول .. وقد نسى فى خلال هذه السنوات كل ما تعلمه فى المدرسة وأصبح واحدا من الفلاحين .. وتزوج علية وهى فتاة من أسرة طيبة من بندر المنيا وكانت .. رقيقة المشاعر معتلة الصحة .. ولم ينجب منها .. وكان ككل الفلاحين الذين يحبون الذرية .. يحدث له هذا بعض الأسى فى أول سنة من الزواج .. ثم يجد نفسه غارقا فى عمله وينسى الأمر كلية .. فلما حملت أخيرا لم يسر كثيرا .. وعندما اقترب ميعاد الوضع رافقها إلى أهلها لتضع هناك أول مولود ..
وكان همام يشعر بالتعب وهو فوق ظهر الجواد .. ولذلك كان يتصور أنه سينام بمجرد أن يضع رأسه على الوسادة لأنه تعب كثيرا وهو يتنقل بين الحقول .. ولكنه لم ينم كما كان يقدر وظل ساهرا وكان بيته من طابقين .. وفى الطابق الأول الباب الخلفى الذى يفضى إلى الاسطبل وحوش المواشى ..
وكان همام يعنى بخيوله ومواشيه .. ويجد لذة المفاخرة كلما خرجت الثيران والخيول فى الصباح والمساء .. لتشرب من الحوض الكبير أمام الدار .. وأخذت تخور وتصهل .. كما أنه كان يشعر بفخار أكبر كلما جاء إليه أحد الفلاحين ببقرة له أو فرس " لتعشر " من الثور الكبير أو من حصانه .. مرزوق .. المشهور فى المديرية كلها ..
كان يشعر بالزهو لهذا .. ولذلك كان ينظر بحذر إلى المحاريث النارية .. وإلى آلات الدريس .. وإلى كل الآلات الميكانيكية التى تستعمل فى الزراعة .. وكان هو الوحيد من كبار الزراع فى المنطقة الذى لا يملك سيارة .. وظل يركب حصانه .. إلى الحقل .. والكارتة إلى المحطة .. وكان همام محبوبا من الفلاحين لأنه كان يعاملهم بالحسنى ويعطف عليهم .. ويدرك ما هم فيه من شقاء وبؤس ويحاول دائما أن يرفع من مستواهم الاجتماعى والصحى .. وكان يشرك بعضهم معه فى الزراعة بالنصف .. ويساعد فى الحصول على البذور من بنك التسليف وعلى السلف الزراعية من المصارف وعلى بيع القطن بأحسن سعر فى السوق .. ولذلك كان يعيش بينهم آمنا مطمئنا .. وكان يعجب لأنهم يعيشون فى الحضيض ولا يرتفعون بأنفسهم أبدا وحتى فى السنوات التى يبيعون فيها المحاصيل بأسعار مرتفعة .. يظلون كما هم .. يعيشون فى مساكن قذرة .. مع البهائم ولا يأكلون الطعام الجيد ولا يشربون الماء النقى ..
ثم أدرك أخيرا أن ما ينقصهم هو صحة الادراك للأمور لأنهم جهلاء .. وعندما يتعلمون وتنمحى منهم الأمية .. سيدخل النور عقولهم .. وسيرتفع مستواهم وإدراكهم للحياة .. وسينقشع الظلام عن أبصارهم .. وسيفهمون الحياة .. ويعيشونها كما يعيش الإنسان ..
وسمع جرس التليفون فى الصالة .. وكان على وشك أن يتحرك من الفراش ويرد عليه .. لكن صوت الجرس انقطع فبقى فى فراشه متكاسلا .. وسمع حس فطوم خادمته الكبيرة .. ثم انقطع الصوت وخيم السكون على البيت إذ لم يكن ينام معه فى هذا الطابق سوى فطوم ..
وأخذ همام يفكر .. فى بعد زوجته عنه .. وفى المولود الذى سيجىء بعد أيام .. وفى الزراعة وفى كل ما يشغل الزراع .. وعجب لأرقه وسهره .. فى الليل .. ولم يدرك البواعث العميقة فى النفس التى تجعل الإنسان يأرق ويتقلب فى الفراش دون سبب ظاهر ..
وسمع صهيل جواده مرزوق وخشى أن يكون هناك من تسلل إلى الإسطبل فنهض من الفراش وذهب إلى النافذة .. فلم ير أحدا فى الحوش ولم يسمع حسا .. فرجع إلى مكانه .. وعاد الجواد إلى الصهيل المتصل .. فلبس همام خفه ونزل .. إلى هناك ..
***
وعندما دخل الحوش وتفقد المواشى .. لم يجد سوى نرجس .. تحلب وحدها .. حلبة الفجر ..
وقالت عندما أحست به :
ـ فيه حاجة يا سيدى ..؟
ـ سمعت .. حس الحصان ..
ـ ما أعرفشى .. هو بيعمل كده فى الليل .. الأيام دى ..
ـ ما أعرفشى ..
وظهر على وجهها الخجل .. وعرف سر خجلها .. فقد خجلت أن تقول له أن الحصان يريد أنثى ..
وعندما نظر إليها بعد ذلك وهى محمرة الخدين منكسة الرأس وقد عادت تحلب البقرة أحس بسوط يلهب ظهره .. وأدرك سر قلقه .. واضطراب أعصابه وأرقه فى الليل ..
وأخذ ينظر إلى الفتاة وهى تتظاهر بأنها منصرفة إلى عملها لا تشغل نفسها به .. ولكنها فى الواقع كانت تحس به ومضطربة لوجوده معها فى الليل فى هذا المكان .. وأخذ يجد سببا للبقاء فى الحوش .. ففتح مخزن العلف وملأ " قفة " صغيرة بالفول المخلوط بالنخالة .. وأخذ يوزعه على المخاول .. ولاحظ أنه لم يتحرك لهذا العلف الجديد الذى جاء فى غير ميعاده إلا القليل من البهائم الراقدة ..
***
وعندما امتلأ القدر باللبن .. حملته نرجس ووضعته بعيدا عن صغار البقر .. وأخذت تصلح من ثوبها لتذهب .. ونظر إليها همام .. وقال بصوت مضطرب :
ـ هاتى شوية تبن للبهائم يا نرجس ..
وكانت تود أن تقول له :
ـ البهايم قدامها تبن ..
ولكنها حملت الملقط .. ودخلت شونة التبن دون أن تتكلم .. وعندما وقفت أمام هدار التبن وانحنت لتملأ الملقط .. وجدته واقفا وراءها .. صامتا .. ينظر إليها نظرة لم تألفها وعيناه تلمعان فى الظلام .. فاستدارت إليه وقالت بصوت خافت :
ـ إيه يا سيدى ..؟
ولكنه لم يرد ..
لأنه أمسك بها وشدها إليه وألقاها على التبن .. وكانت هناك حفرة عميقة فى جوف التبن فغابا فيها ..
***
وعندما نهضت أخذت تنفض ما علق بثوبها من التبن الأبيض .. وهى صامتة .. ولما تناولت قدر اللبن .. وأخذت ترفعه إلى رأسها اندلق منها على الأرض .. وتشاءم همام من هذا الحادث إذ كان يسمع الأساطير عن اللبن الأبيض المراق على الأرض السوداء .. وأخذت نرجس تبكى .. ولم يكن يدرى أبكت على اللبن أم على شىء آخر ..
***
وخرج من الحوش منسلا خائفا يتوجس أن يراه أحد الخدم .. وعجب لخوفه وهو سيد البيت .. وأدرك كيف تذل الغريزة الإنسان وتعريه وتجرده من كل سطوة وتجعله أقرب إلى الحيوان الذليل ..
***
وعندما عاد من الغيط مساء اليوم التالى .. كان كل ما يتمناه أن يسمع حس نرجس .. فلما لم يسمع صوتها اضطرب .. وود أن يسأل عنها فطوم ولكنه ضبط عواطفه .. حتى رآها تدخل عليه .. حاملة صينية العشاء .. ووضعتها أمامه على المائدة .. ورأى وجهها هادئا ساكنا فاطمئن ..
***
وشعر بالنار تشتعل مرة أخرى واشتاق أن يضمها إلى صدره .. ويلثم فمها العذرى .. وتحين الفرصة حتى واتته .. وتسلل وراءها وهى صاعدة إلى الفرن ساعة الفجر تعد الخبيز .. وسحبها من يدها إلى غرفة مهجورة وخافت الفتاة من الفضيحة فاستسلمت .. ومضى الأمر سريعا .. ولكنه أطفأ جذوة .. وأصبحت بعد هذا اللقاء تحت سلطانه .. وصارت ترغب فيه وتشتاق إليه كما يشتاق إليها .. فكان يلاقيها كلما خلا لهما الجو .. وانغمرا فى بحر اللذة الخفية ونسى زوجته ..
***
وعادت زوجته علية بعد غياب ثلاثة أشهر ومعها مولود ذكر .. وسر بذلك كثيرا .. وأخذ ينسى ما حدث ..
***
وكانت نرجس لا تزال فى البيت ولكن بعد عودة سيدتها لاحظ أنها حزينة ذليلة ..
***
وذات ليلة حدثته زوجته بأنها سمعت همسا بين الخدم .. وأن نرجس حبلى ودردير هو الذى " عملها " فى الحوش .. وطلبت علية من همام أن يأتى بدردير ليزوجه الفتاة .. قبل أن يعرف أهلها وتشيع الفضيحة ..
فقال همام لزوجته :
ـ بس لما نتأكد .. دى مسألة مش بسيطة ..
ـ نتأكد من إيه .. بقولك حبلى ..
ـ من الفاعل ..؟
ـ كل الناس عارفه أنه دردير .. ومع كده .. أنا حاسألها النهارده ..
وابيض وجه همام .. ولم تلاحظ زوجته ذلك وتركها لبعض أعماله ..
***
لكن الفتاة لم تنتظر حتى تسألها سيدتها .. فقد هربت فى الليل .. دون أن تأخذ معها شيئا من ملابسها .. وسارت فى طريق النيل ..
***
وذات يوم ..
وجد أهل القرية دردير مقتولا وملقى على حافة ترعة .. وتنفس الناس الصعداء وقالوا :
" غرر بالفتاة المسكينة فلقى القصاص .. "
 وطويت صفحة .. ولكن لم يسدل الستار ..
فقد رأى الفلاحون بعد الغروب حصان همام راجعا وحده إلى الإسطبل .. وكان مسرجا .. وعليه معطفه .. وزمزميته ..
***
وخرجت القرية تبحث عن الرجل .. ووجدوه ملقى بين المزارع .. والدم ينزف منه وبجانبه .. مسدسه .. وقد انطلقت منه رصاصة واحدة ..
========================= 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 445 بتاريخ 29/8/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
========================  
 









































الآخرون

كان الجو شديد الحرارة .. والقاهرة تكوى بشمس أغسطس .. وكنت تعبا جائعا ومحطم الأعصاب .. فملت إلى محل صغير فى حى قصر النيل .. كنت أعرف أن منصور الطويل يجلس فيه فى مثل هذه الساعة .. ولكن عندما دخلت المحل لم أجده فاستأت ولكنى شعرت بالراحة فى الهواء المرطوب .. وكان التعب قد نال منى فجلست وطلبت فنجانا من القهوة .. وكان الجرسونات فى المحل أكثر من الرواد .. ووجوههم الكئيبة المنفرة أكثر الأشياء قبحا .. وزادت الحرارة فى الخارج .. فازدحم المكان بالرجال والنساء حتى شغلت كل مقاعده ..
وكان أكثر الجالسين من الأجانب ومن الشبان المنعمين الذين لا يؤدون أى عمل على الاطلاق .. ومن الشيوخ الذين وضعتهم الحياة على الرف فجلسوا يدخنون ويحلمون أحلام اليقظة ..
وكانت حوادث لبنان هى التى تشغل السنة الناس وعناوين الصحف .. وكنت لا تعدم راكبا سقط من بيروت وجلس يروى للناس رواية شاهد عيان ..
***
ولما اقترب موعد الغداء خف رواد المحل .. وبقيت أتلقى اللهب الذى يهب من الباب الخارجى .. وجلست منكمشا وأنا أشعر بالخجل لأن بدلتى متسخة .. وقميصى على لحمى منذ أربعة أيام ..
وكان شعر ذقنى قد نبت بغزارة والعرق الممزوج بغبار الطريق يثير أعصابى .. وكنت أود أن أذهب إلى دورة المياه وأغسل وجهى ورأسى .. ولكنى عدلت عن هذه الفكرة بعد أن تبينت حماقتها فى مثل هذا المكان .. ولمحت التليفون بجوارى فطلبت منصور فى مكتبه ولكننى لم أجده .. فزاد يأسى .. وكان معى ورقة صغيرة بعشرة قروش .. هى كل ما بقى فى جيبى .. وكنت جائعا إلى حد الموت .. وأود أن آكل ولو قطعة من الحلوى ولكن كنت أعرف أن العشرة قروش لا تكفى لفنجان آخر من القهوة .. فى هذا المحل ..
وجلست أفكر فى الشخص الذى يمكن أن أذهب إليه ممن أعرفهم فى القاهرة خلاف منصور لأقترض منه جنيها آكل منه .. ثم أركب بالباقى القطار إلى طنطا ..
ثم رأيت أن أعدل عن هذه الفكرة كلية وأن أخرج بعد أن تخف الحرارة فى العصر وأركب سيارة مشتركة مع آخرين من محطة مصر .. وهناك فى طنطا يسهل على أن أعطى السائق أجرته ..
***
ولكن حدث ما جعلنى أبقى فى المكان أكثر مما قدرت .. فقد كانت الحرارة تزداد شدة ولهبا فى كل ساعة وخفت أن أخرج إلى الشارع وأنا على هذه الحال من الإعياء والجوع فأسقط فى الطريق .. وأعرض نفسى مرة أخرى لفضول الناس .. وكان الأمل فى دخول منصور من الباب لا يزال يراودنى ..
وجلست منكمشا أكثر وأنا أتغذى من طراوة الهواء .. وعيناى على الباب .. كأنى كنت أرقب منه النجدة فى كل لحظة ..
وازدحم المحل مرة أخرى .. وكان الصمت يخيم رغم الزحام .. ودخلت سيدة أجنبية طويلة العود فى قرابة الخمسين .. وكانت تبتسم ابتسامة رقيقة ورأيت فى نظرتها استرحاما .. يهز مشاعر النفس ..
أخذت تبحث بعينيها عمن يدعوها للجلوس .. ولم يكن هناك أى مقعد خال .. ولمحت مقعدا بجوارى حجبه عن الداخلين العمود القائم فى وسط القاعة وألقيت علىّ نظرة مودة ارتجفت لها .. وأحنت رأسها كأنها تستأذننى فى الجلوس فهززت رأسى فى أدب .. وجلست بجوارى وأنا أنظر إلى عينيها الفائضتين بأرق العواطف البشرية .. وبعد ثلاث دقائق كنا نتحدث بالفرنسية .. كأصدقاء ..
وكانت قد طلبت شكولاته مثلجة .. فأخذت أرقبها وهى تأكل .. فلاحظت أنها متأنقة فى ملبسها متعطرة .. وتحاول أن تخفى عن وجهها تجاعيد الزمن .. بكل الوسائل ولكن الكبر كان ظاهرا .. على وجهها .. وبقى الشباب .. والجمال فى فينيها .. وفى أسنانها .. وكانت تتحلى بعقد يتلألأ على صدرها العاجى .. وشعرت بالخجل وهى تنظر إلى قميصى المتسخ .. ولكنها كانت ضاحكة .. وعذبة الحديث .. فنسيت حالى واستغرقت معها فى حديث طويل .. واقترحت هى أن نخرج .. ونذهب إلى السينما ..
فقبضت بيدى على أنصاف القروش التى بقيت من حساب القهوة والتليفون وشعرت بالخجل ..
وحولت وجهى وهى تحاسب الجرسون .. وخرجنا سريعا .. إلى أقرب سينما .. ولم تكن الرواية ممتعة .. ولكننى استرحت وأنا معها فى هذا المكان المظلم .. المرطوب .. وكانت الشرفات خالية تقريبا .. وهذا جعلنى أحس براحة أكبر ..
ومع أنى لست من سكان القاهرة .. ولا يعرفنى منها أحد .. ولكننى شعرت بالخجل وأنا جالس بجوارها .. كما يجلس العشاق ..
وخشيت أن يكون قد لحظنى أحد وأنا داخل معها السينما .. ومع أنها كانت رقيقة المشاعر .. وارستقراطية المظهر .. ولكن صحبة عجوز ليست بالأمر الهين على شاب فى الثانية والعشرين .. وكان يزيدنى خجلا واضطرابا أنها دفعت تذاكر السينما .. وأحصيت ما فى جيبى فوجدته قرشا ونصف قرش .. وكنت أستطيع بهذا المبلغ أن آكل ساندوتشا شعبيا وأسد رمق الجوع .. ولكن كيف أفعل ذلك وهى فى صحبتى ..
وفى خلال الظلام .. عرفت أننى جئت من مدينة طنطا لأبحث عن عمل فى القاهرة وكان معى خطاب توصية لرجل من رجال الأعمال ..
وفى كل مرة كنت أحضر فيها إلى القاهرة .. كنت لا أجد الرجل .. كان دائما فى بيروت .. والمواصلات مقطوعة .. وفى هذه المرة وجدته .. ولكنه لم يكن فى المكتب .. فتركت إسمى وعنوان الفندق .. فى ورقة .. وضعها الفراش فى حجرته ..
وخرجت لأعود إليه فى اليوم التالى .. ولكننى قابلته على السلم .. وصعدت معه مرة أخرى إلى مكتبه .. ووعدنى بالعمل .. وتركته لأعود إليه بعد غد .. ولما وصلت الفندق فى الليل لأنام وجدت البوليس .. يبحث عنى .. وقبضوا علىّ وأنا مذهول .. وعلمت أن التاجر قتل بعد زيارتى له .. وسرقت كل نقوده من خزانته ..
ووجد البوليس .. إسمى وعنوان الفندق وهو يقلب فى أوراق القتيل .. وظللت فى الحبس .. أربعة أيام .. ولا يعرف أحد من أهلى أو أصحابى شيئا مما حدث لى فى هذه المدينة الكبيرة كالمحيط .. وهذا هو سبب جوعى وعذابى .. واتساخ ملابسى .. فقد أعطيت كل ما معى من نقود للعساكر وأنا فى الحبس .. ليأتونى بالسجاير والطعام .. وكنت أدفع فى الشىء الذى ثمنه قرشا واحدا عشرة قروش لكى يصل إلىّ ..
وسألتنى .. وقد صدقت كل حرف من كلامى :
ـ وكيف أطلقوا سراحك ..؟
ـ عرفوا القاتل منذ ساعات .. فأطلقونى فى الحال ..
ـ إنك سعيد الحظ .. لأنك خرجت سريعا ..
وتبسمت ..
ـ إن ما حدث لم يكن خطئى .. ولكنها أخطاء الآخرين .. وماذا نفعل .. لنتجنبها ..؟
فابتسمت ثانية برقة .. وقالت :
ـ لا يمكن أن نفعل شيئا إنها شىء واقع حتما .. مادامت الحياة .. ولا شك أنك تعذبت كثيرا .. ومررت بتجربة قاسية ..
ـ ولكننى نسيت عذابى وتعاستى الآن .. بعد أن التقيت بك ..
ـ هل أنت مسرور حقا ..؟
ـ ما أعظم سعادتى ..
وخرجنا من السينما ..
وكانت الساعة قد جاوزت السادسة مساء .. وكنا نقترب من بيتها ..
وعلى باب عمارة حديثة البناء .. دخلنا وصعدنا إلى الدور الثالث وعندما فتحت الباب ودخلنا شعرت بالراحة إذ لم يكن فى الشقة سوانا ..
وكان أول شىء فعلته أنها أخرجت لى قميصا مكويا ..
وتناولته ووضعته على لحمى .. دون تردد .. وأرتنى صورة المرحوم زوجها فى أحد الأركان .. وكان عجوزا .. وحدثتنى أنها كانت شابة فى العشرين عندما التقت به وتزوجته كرغبة أسرتها .. ومات بعد خمسة أعوام من الزواج .. ولم تتزوج بعده ..
وأدركت الحياة التى عاشتها فى خلال خمسة وعشرين سنة .. وكنت أود أن أقول لها :
ـ إن هذا ليس خطأك .. ولكنها أخطاء الآخرين ..
ولكنى عجزت عن الكلام من تأثير الجوع ..
***
وتعشينا .. وكنت أود أن أشرب بيرة مثلجة .. ولكنها سقتنى نبيذا أحمر .. وقالت لى أنها لا تشرب غيره .. فى الصيف والشتاء .. ولم يكن لى الخيار فى أى شىء ..
وعلى العشاء .. دخلت سيدة حلوة .. ولما رأتنى .. قالت :
ـ مساء الخير .. هل يضايقكم وجودى ..؟ يمكن أن أذهب إلى السينما فى حفلة السواريه ..
وقالت لها المدام برقة :
ـ لماذا يا مارى .. أجلسى .. وأشربى معنا .. إن السيد جنتلمان مهذب ..
وجلست .. وكانت مارى شابة رائعة الحسن .. ولقد اشتهيتها من أول نظرة .. وكان جسمها بديعا .. ولدنا .. وتبرز كل مفاتنها من تفصيل ثوبها الجميل .. وكانت تتحلى بجواهر زادتها جمالا وفتنة ..
وجلسنا نشرب أكثر من ساعة .. وكانت مارى لا تحول وجهها عنى ..
ثم لعبنا الورق .. وشربنا القهوة .. ولم أكن أعرف هل مارى قريبتها أو ساكنة معها أم ضيفة حلت عليها .. ولم يكن هذا يعنينى فى شىء وإنما حسبى أننى سأقضى الليل معهما .. ومن خلال حديثى معهما لم أجد فى رأسيهما أى شىء مما يشغل بال الناس عن الحياة والكفاح فى سبيل اللقمة .. فهما فى سعة من العيش ورغد .. ودائما تقضيان الصيف فى أوربا .. وكانت المدام تعتزم السفر هذا العام إلى جبال لبنان ولكن الحوادث منعتها من السفر ..
وكنت جائعا ومحروما .. ولم أجد أى شىء أعبر به عن حرمانى وجوعى .. أكثر من التطلع إليهما فى لذة ..
وكنت متحفظا جدا فى عواطفى مع الصغيرة .. وجعلت قلبى كله للكبيرة .. وكل أحاديثى .. وجلست الصغيرة صامتة .. ثم أخذت ترفع منافض السجاير .. وفناجين القهوة عن المائدة ..
***
دخلت المدام الحمام .. وتركت الباب مفتوحا ولاحظت أنها تغسل أسنانها بعناية وتعنى بها جدا ..
وأدركت لماذا تبدو أسنانها لؤلؤية ونضيرة ..
وخرجت حافية عاصبة شعرها ..
***
واستأذنت مارى .. لتنام .. وسألتها المدام :
ـ هل أغلقت الباب المؤدى إلى سلم الخدم جيدا ..؟
ـ سأغلقه ..
   وخرجت من البهو .. وتركتنا ..
وسرت المدام لأن مارى .. تركتنا .. وجلسنا نتحدث حتى أحسسنا بأن مارى نامت ..
ودخلت مع المدام إلى غرفتها .. وجلست على كرسى طويل .. أدخن .. وقالت وهى جالسة أمام المرآة تتحلى وتتزين كأنها عروس .. تستقبل لأول مرة رجلها :
ـ هل أحببتنى ..؟
ـ بالطبع .. وإلا ما جئت معك .. إلى هنا ..
ـ وهل ستظل دائما تحبنى ..؟
ـ بالطبع .. وهذا لا يحتاج إلى سؤال ولكن ..
ـ ولكن ماذا ..؟
ـ ولكنى عاطل .. وأنا أبحث عن عمل .. لأعيش .. ولا يمكن أن يعيش الناس من الحب ..
ـ سأجد لك عملا من الغد ..
ـ كيف ..؟
سأفتح لك محلا للتجارة ..
ـ لا أقبل هذا ..
ـ لماذا .. ؟ ولماذا ذهبت .. إلى الرجل الذى حدثتنى عنه إذن ..؟
ـ ذهبت إليه ليوظفنى .. فى أعماله الكثيرة .. لأشتغل بعرقى .. وليس ليعطينى نقودا .. أو يفتح لى محلا .. أنا لا أقبل هذا ..
ـ إذن سأوظفك .. سأعطيك بطاقة وستذهب بها إلى قريب .. لزوجى .. يدير شركة كبيرة للدخان وسيوظفك فى الحال لأنك مصرى ومتعلم ..
واحمر وجهى .. وتذكرت .. أحاديث الناس .. عن الشبان الذين وظفتهم النساء وزاد خجلى .. ولاحظت اضطرابى فاقتربت منى .. وضمتنى إلى صدرها .. وهى تقول :
ـ لا تشغل بالك بشىء ..
ـ والآخرون ..
ـ إنهم سيبتعدون عنك إلى الأبد ..
ونسيت كل شىء .. ورحت أغمرها بالقبلات .. وكان فمها معطرا .. طيب النكهة ..
***
ونامت بعد ساعة .. وغفوت أنا مثلها .. وصحوت على حس مارى .. وحركة أقدامها داخل الشقة .. وكأننى تنبهت إلى شىء نسيته وأحسست بهزة وبرجفة الرجل .. وهو يسمع صوت الأنثى .. فجأة وهو فى قلب الصحراء ..
وذهبت إلى بابها حافيا وأنا لا أعرف القوة التى تحركنى .. فوجدتها فى قميص النوم .. وغرفتها مضاءة بنور خافت .. ولم تجفل لما رأتنى ..
وكان فى فمى سيجارة .. مطفية .. وأدركت أننى أود أن أشعلها ..
ونظرت إلىّ طويلا ثم قدمت لى الولاعة وقبل أن أشعل السيجارة أخرجتها من فمى .. ووضعت شفتيها مكانها ..
ثم انسابت فى خفة إلى غرفة المدام .. ونظرت فى داخلها ثم أغلقت عليها الباب ..
***
وعادت إلى أحضانى .. وشعرت بالفء والحنان وغلبنى النعاس فنمت فى فراشها قليلا .. ثم تركتها وعدت إلى مكانى فى غرفة المدام ..
واستيقظت فى الصباح على صراخ مفزع .. وكانت الشمس الحامية تملأ الغرفة ..
ولما خرجت وجدت مارى .. فى فراشها .. مخنوقة .. ودولابها مفتوحا .. ونظرت صامتا إلى الشىء الملقى على خطوات منى دون حراك .. ودون حس ..
وإلى الشىء الآخر .. الذى كان يصرخ .. وينظر إلىّ وعلى وجهه الرعب المجسم ..
ووجدت قميصى .. لا يزال على فراش مارى .. وكنت قد نسيته .. فى الليل وأنا بجوارها ..
وكانت المدام تنظر إليه بقسوة وعيناها لا تتحولان عنه .. وكأنها ترسم بعينيها موضع جسمى فى الفراش ..
فأدركت فى الحال سبب صراخها .. ولماذا تحاول أن تلصق بى التهمة .. وتجعل الحبل يلتف حول عنقى ..
أننى فعلت الشىء الذى طير لبها .. وكانت تغفر لى كل شىء .. إلا أن أتركها فى الليل .. وأذهب إلى أحضان امرأة أخرى ..
ولما جاء ضابط البوليس ورآنى .. قال فى زهو :
ـ هو أنت .. لن تفلت هذه المرة ..
وكنت أود أن أقول له .. أنه ليس أنا .. أيها الأحمق .. ولكنهم الآخرون .. ولكنى كنت على يقين أنه لن يفهم شيئا ..
وظللت صامتا حتى أخرجونى ووضعونى فى " البوكس " ..
وكانت المدام .. إلى آخر لحظة .. مثبتة بصرها على قميصى .. وهو ملقى هناك على فراش المرأة الأخرى .. وفى عينيها تحجر الدمع ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 363 بتاريخ 8/12/1958 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=======================

 

 





























ليلة فى بومباى

رجع كمال إلى مكتب شركة السياحة وهو شاعر بالضيق .. فلم يكن يحب أن يقضى الليل فى هذه المدينة الخانقة الأنفاس .. كان حرها لا يطاق ومنذ نزل من الطائرة وهو يحس كأن جلدة يلسع بالنار .. وكان العرق الغزير اللزج يلصق بدلته وقميصه بجسمه .. فيضاعف هذا من عذابه وتوتر أعصابه ..
وكان قد حدث خلل فى محرك الطائرة التى يركبها إلى بانكوك .. فأنزلوه منها مع بقية الركاب حتى يصلح العطب ..
فلما لم يتم الاصلاح على الوجه المرجو .. اضطرهم إلى قضاء الليلة فى بومباى إلى أن تأتى طائرة أخرى من نفس شركة الطيران وتأخذهم فى الصباح ..
وركب عربة الشركة إلى الفندق الذى أعدوه لهم ووجد كمال أنهم حجزوا له غرفة مشتركة مع شخص لا يعرفه فرفض أن يقبل هذا الوضع ورجع إلى الفتاة فى مكتب استعلامات الشركة ليعلن سخطه ..
ونظرت إليه الفتاة بابتسام .. وقالت برقة :
ـ سأبحث لك عن غرفة أخرى ..
وأخذت تتصل بفندق تاج محل ..
ثم قالت :
ـ إنى آسفة ..لا يوجد فى تاج محل سوى الغرف الثلاث المحجوزة لكم ..
ـ ولكنى لا أنام مع شخص لا أعرفه .. أرجو أن تبحثى لى عن غرفة فى فندق آخر .. على حسابى ..
ـ سأنفذ رغبتك ..
وأمسكت بالتليفون وظلت تتصل بالفنادق الكبيرة فى المدينة لمدة نصف ساعة .. ثم نظرت إليه باسمة .. وقالت :
ـ آسفة .. لا توجد أية غرفة .. أننا فى موسم الأعياد وبومباى مزدحمة بالوافدين عليها ..
ـ إذن سأبيت هنا ..
فقالت ضاحكة :
ـ المكتب سيغلق بعد ساعة ..
ـ هذا أدعى للاطمئنان أكثر .. لأنى سأنام .. والباب مغلق علىّ ..
وعادت الفتاة تضحك ..
وخرجت إلى وسط القاعة .. وبدت طويلة لفاء العود .. ودخلت فتاة أخرى فى تلك اللحظة من الباب وسلمت على موظفة الشركة .. وأخذت تتبادل معها الحديث ..
وأخذ كمال ينظر إلى الفتاة الجديدة .. كانت ترتدى ساريا أصفر جميلا على قوام طويل لدن وكان شعرها أشقر غزيرا وعيناها خضراوين فى صفاء ورقة وفى قدميها خف يبرز أصابع القدم الصغيرة ..
وبدت كلها أجمل ما تكون فتنة .. وتحدثت الموظفة معها بالهندية قليلا ثم أمسكت بالتليفون مرة أخرى ووضعت السماعة وهى تنظر إلى كمال .. وقالت :
ـ مس شارى .. أعرفك بالسيد كمال من ركاب الطائرة .. النسر .. التى تعطلت عن السفر  الليلة ..
ومد كمال يده مصافحا .. واستطردت الموظفة :
ـ وما دمت ذاهبة إلى البيت يا شارى .. أرجو أن تأخذى معك السيد كمال إلى لوكاندة وندسور .. فقد حدثتهم الساعة ليحجزوا له غرفة هناك ..
وقالت مس شارى وهى تنظر إلى كمال برقة :
ـ تفضل ..
وركب بجانبها فى سيارتها وانطلقت تتهادى فى الشارع ولاحظ أنها تتخذ الجانب الأيسر من الطريق ..
ـ هل أنت إنجليزية ..؟
لا .. أننى هندية .. والدتى إنجليزية .. ولماذا خمنت هذا ..؟
ـ من لون شعرك .. وعينيك ..
ـ هل أنت ذاهب إلى بانكوك ..؟
ـ أجل ..
ـ أوه .. سترى أجمل الفتيات فى سيام .. لقد اقتربنا من الفندق ..
ونزلا من السيارة .. ودخلا الفندق وسر من فخامته .. وروعة قاعة الاستقبال وصافحت وجهه طراوة امتصت العرق فشعر بالارتياح وأدرك أن القاعة مكيفة الهواء ..
وأخذت شارى تتحدث مع مكتب الاستقبال .. مدة طويلة .. وعادت له ..
ـ آسفة .. فلا توجد أى غرف .. لقد احتلت فرق باليه الفندق كله لمدة أسبوعين ..
ـ لماذا قالوا للمس لندا .. أنه توجد غرفة ..
ـ لقد حدث سوء تفاهم دون شك ..
ولما رأت الأسى على وجهه .. جذبته من ذراعه .. وقالت له باسمة ..
ـ سنذهب إلى فندق آخر أعرفه ولا بد أن نجد لك غرفة ..
ولم يعثر على غرفة فى الفندق الذى ذهبا إليه ولا فى غيره من الفنادق .. فعادا يركبان السيارة .. وسألها برقة وهو شاعر بالحيرة ..
ـ هل يمكن أن تتكرمى علىّ ونتجول قليلا فى المدينة ..
ـ بكل سرور ..
وسارت به على شاطىء البحر .. وكان الجو راكدا خانقا .. والعرق يسح منه ففتح عروة قميصه .. ورأى الهنود فى لباسهم الأبيض جالسين حول البوابة الكبيرة التاريخية التى فى مدخل الميناء .. وكانوا يلبسون الصنادل .. والقمصان البيض الطوال فوق السراويل .. وكان بعضهم حافى القدمين ..
وكانت سحنهم سمراء .. وشعرهم أسود لامعا .. وبدا عليهم التأثر من حرارة الجو وشدة الرطوبة فجلسوا فى خمول .. دون حراك .. كأنهم ينتظرون رحمة السماء من هذا العذاب ..
وأوقفت شارى السيارة فى جانب الطريق .. وخرجا منها ووقفا ينظران إلى البحر ومد بصره إلى بعيد .. وهو يرى الأنوار تتلألأ .. فى الميناء الدائرى ..
وسألته :
ـ هل أسفت لأنك لم تجد غرفة مع فرقة الباليه .. إن فيها فتيات جميلات دون شك ..
ـ ليس من المعقول وأنا معك أن أفكر فى أية فتاة أخرى ..
ـ أوه .. حقا ..
ـ لقد شعرت بميل شديد من أول نظرة ..
ـ حقا إن هذا يسرنى ..
ـ ما أجمل بومباى فى الليل ولولا هذه الحرارة الخانقة لكانت من أجمل المدن ..
ـ إن الساحل كما ترى .. على شكل عقد من اللؤلؤ على صدر حسناء ..
ـ وكانت الحسناء تسمى فيكتوريا ..
ـ إنك تعرف تاريخ بومباى إذن .. ولا داعى لأن أكون دليلك ..
وقال لها بعد أن مشيا طويلا على الشاطىء :
ـ هل أخرتك عن العودة إلى البيت .. ربما أكون ضايقتك ..
ـ بالعكس إننى مسرورة جدا .. لأنى التقيت بشاب مثلك .. ويجب أن أبحث لك عن غرفة مهما كانت الأحوال ..
ـ لا داعى لأن تتعبى نفسك .. فى البحث .. سأظل هنا إلى الصباح .. فلا يوجد أجمل من هذا المكان فى بومباى .. فقط أرجو أن تظلى معى ..
ـ هذا يسير .. سأظل معك ..
ـ هل يمكن أن نعثر على مكان نشرب فيه زجاجة من البيرة ..
ـ لا نستطيع ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى ألبس السارى وسيظنونك هنديا والخمر محرمة على الهنود فى الأماكن العامة ..
ـ أى عذاب ..
ٍـ مستاء ..
ـ جدا ..
ـ إذن سنشرب البيرة فى بيتى ..
ـ أكون سعيدا ..
ـ قبل أن نذهب إلى البيت سأريك أهم ما فى المدينة ..
وسارا معا فى الشارع الرئيسى .. وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة .. والمدينة تتلألأ بالأنوار القوية .. ولكن الحوانيت أخذت تغلق أبوابها .. ومرا على أكثر من مشرب من مشارب الشاى .. وكان يود أن يدخل ليستريح .. بعض الوقت ولكنها قالت له ..
ـ سأريك شيئا تسر به أولا ..
ومذ التقت به وجلست بجانبه فى السيارة وهى تشعر بالارتياح .. ومن اللحظة التى رأته فيها فى مكتب السياحة وهى تشعر بميل قوى إليه وبسرور الفتاة وهى ترافق شابا يخفق له قلبها ..
وكان كمال فى السابعة والعشرين من عمره طويل العود .. أسمر وسيما .. قوى الجسم فى صوته خشونة تحبها المرأة ..
وسمعا وهما منطلقان بالسيارة نقرا شديدا بالدف آتيا من بعيد ..
ـ ما هذا ..؟
ـ إنه معبد هندى .. وسنذهب إليه ..
واقتربا من المعبد فأوقفت السيارة .. وكان على بابه امرأة مسنة تلبس السارى الأبيض وفى أذنيها وعلى صدرها الحلى ..
ودخل كمال مع شارى .. من الباب .. وكان هناك شاب هندى عارى الصدر تماما .. ينقر على الدف أمام المعبد .. نقرا عنيفا .. وشاب آخر يتلو التعاويذ .. ويطلق البخور ..
ودخل المكان شاب وفتاة .. بعد أن خلعا نعليهما .. ووقفا أمام المعبد .. ثم ركعا .. وكان الشاب العارى الصدر يتلو الأدعية ويطلق البخور ..
وقالت شارى وقد اكتسى وجهها بالسعادة :
ـ إنهما يتزوجان ..
وقال كمال :
ـ أيمكن أن نفعل مثلهما ..؟
ـ بالطبع ..
وخلعا نعالهما ودخلا المعبد .. ووقفا أمام المعبد كزوجين .. وأخذ الشاب الهندى يتلو الأدعية وهما صامتن .. والبخور يملأ جو المكان ..
ثم خرجا مسرورين بعد أن وضع كمال فى يد الشاب الهندى بضعة روبيات .. وركبا السيارة إلى بيت شارى ..
***
وكان بيت شارى فى الدور الثالث من عمارة حديثة .. وفتحت لهما أمها الباب وكانت سيدة إنجليزية لا تزال فى نضارة الشباب .. وكانت قد التقت بوالد شارى وهو طالب فى لندن .. فتزوجته هناك .. ثم جاءت معه لتعيش فى بومباى .. ومن وقتها وهما يعيشان فى الهند .. ومات الزوج وترك لها ثروة طيبة .. وبنتين جميلتين ..
وعاشت الأم مع ابنتيها فى سعادة ويسر ..
ودخلت أخت شارى لتسلم على الضيف .. وذهل كمال فقد كانت تشبه شارى كل الشبه .. ولا تختلف عنها فى أى شىء حتى فى بحة الصوت وعلم أنهما توأمان وأخذ ينقل بصره بين الأختين لعله يلاحظ أى فارق بسيط .. ولكنه عجز عن المفارقة .. فقد كانت كل واحدة منهما صورة طبق الأصل من الأخرى .. وتعشوا وشربوا البيرة والويسكى وأخذوا يتحدثون فى مختلف الشئون فى مرح وبهجة حتى انقضى جزء كبير من الليل .. وطافت به المدام فى كل الغرف ورأى البيت الهندى لأول مرة ..
واستأذن كمال لينصرف .. فقالت شارى :
ـ حكيت قصة الفندق لوالدتى .. فرأت أن تنام هنا ..
ـ إن هذا كرم عظيم ولطف منها .. ولكنى أخشى أن أزعجكم ..
ـ أبدا .. سنكون مسرورين .. والآن سنريك غرفتك .. ومشى مع شارى إلى غرفة جميلة ..
ودخلت عليهما الأم بعد لحظات .. وسألته :
ـ هل راقتك الغرفة ..؟
ـ إنها جميلة جدا ..
ـ هل ينقصك شىء ..
ـ أبدا .. فيها كل ما احتاجه حتى البيجامة ..
ـ إنها بيجامة شارى ..
وضحكت ..
وكانت الأم محتفظة بكل شبابها ونضارتها .. وكل من يراها يتصورها أختا للفتاتين .. وعادوا إلى الصالة وجلسوا يتحدثون .. ثم استأذن كمال لينام وترك الثلاث فى مكانهن ..
وخلع كمال بدلته .. وارتدى البيجامة الحريرية .. وكان الحر شديدا .. فترك النافذة مفتوحة .. والباب مفتوحا .. وأغلق النور ..
ورآهن بعد قليل رائحات غاديات فى الطرقة .. بقمصان النوم الشفافة .. التى تكشف عن كل المفاتن .. وكان فى الظلام .. وكن فى النور فلم يلاحظن نظراته ..
وأغفى إغفاءة قصيرة .. واستيقظ على حركة بسيطة فى الغرفة .. ولما فتح عينيه رأى واحدة منهن .. تنزل الستر على النافذة .. وتغلق شبكة السلك لتمنع البعوض من دخول الغرفة .. وسمعته يقول :
ـ أشكرك ..
وكانت تتصور أنه نائم .. ولم ترد عليه .. وكانت تتحرك فى الغرفة كالشبح .. وقد اشتد الظلام فى داخل الغرفة بعد إنزال الستارة .. وأصبحت العين لا ترى .. وتحركت فارتطمت بالسرير .. وأحست به يمسكها من ردائها .. وكأنها كانت تتمنى هذه الحركة .. فلم تمانع ومالت عليه بجسمها كله .. فطوقها بذراعيه وشدها إلى صدره ..
وأخذ يحادثها فى صوت خافت ليتأكد من أنها شارى .. ولكن يدها الناعمة وضعت على فمه وهمست :
ـ لا تتحدث .. لئلا يستيقظ النائمون ..
وغرق فى دوامة من اللذة .. ونعس قليلا ولما فتح عينيه وجد الجسم الناعم بجواره فأخذ يضمه ويشم عطر شعرها وجسدها .. حتى أدركه النعاس مرة أخرى ..
***
وقبل الفجر تيقظ فوجد يدا ناعمة تمسح على ذراعه العارية .. فقبل اليد وضم الجسم إليه بقوة ..
وبعد ساعة انفلتت من جواره وخرجت من الغرفة ..
***
وفى الصباح استيقظ مسرورا وفى رأسه الحلم الذهبى .. ورفع الستر عن النافذة ودخل النورالغرفة .. ووجد فى الفراش .. فردة قرط .. فوضعها وهو يبتسم فى جيبه ..
ولما جلس معهن الثلاث إلى مائدة الافطار .. كن أكثر اشراقا وسرورا منه وضحكن كلهن من نظراته .. كان يود أن يعرف أيهن التى قضت الليل معه .. ولما طال فيهن التأمل ازدادت حيرته ..
وودع الأم وأخت شارى .. وركب مع شارى سيارتها لتوصله إلى مكتب الشركة .. وفى الطريق أخرج فردة القرط .. من جيبه ..
وسألها بهدوء :
ـ هل هذه تخصك ..؟
ـ لا .. إنها تخص ماما ..
وسألته وقد تغير لونها .. وابتدأت تفكر فى شىء أفزعها :
ـ أين وجدتها ..؟
ـ فى الحمام ..
فعاد إلى قلبها الاطمئنان .. وضغطت بيدها الخالية على يده بشدة .. معبرة عن سرورها ..
======================== 
نشرت القصة فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
========================  

 


المعجزات السبع

     حمل البريد الطواف إلى أمين عبد المولى .. وهو قروى من قرية نافع بالصعيد .. ومن أهل الطريقة ..رسالة معطرة من الشيخ رجب شيخ طريقتهم .. يخبره فيها بأنه سيزور القرية يوم الخميس ..
     وسرى الخبر فى القرية مسرى النار فى الهشيم .. وانتقل منها إلى القرى المجاورة ، فقد كان الشيخ رجب مشهورا فى المنطقة كلها ومعبود الجماهير .. وكان يتفضل عليهم بهذه الزيارة كل ثلاثة أعوام مرة .. مرة واحدة .. ليباركهم ويريهم من معجزاته ..
     وفى ميعاد وصول القطار ، وقف أكثر من مائة قروى فى محطة أسيوط فى انتظار الشيخ .. ومنهم من لم يدخل محطة حديدية طول عمره .. ولم يركب قطارا فى حياته .. فاضطربوا والتصق بعضهم ببعض على الرصيف .. وأصبحوا كالقطيع قبل أن يدخل السلخانة للذبح .. يرفعون رؤوسهم ويتصايحون ويتدافعون بالمناكب .. وقليل منهم الذى تسلق الكوبرى ليصل إلى الرصيف الآخر حيث يقف القطار ..
     وكان القطار يدخن ويصفر .. كأنه يشعرهم بأنه يحمل الشيخ الكبير ..
     ومع ذلك لم يجد القرويون الشيخ على الرصيف .. ولم يروه وهو ينزل من القطار .. وإنما وجدوه بعد أن أعياهم البحث خارج المحطة واقفا بعباءته الفضفاضة .. كأنما هبط عليهم من السماء ..
     وسأله أحدهم :
     ـ أنت جيت فى إيه يا سيدنا الشيخ ..؟
     وابتسم ابتسامته المعروفة .. ولم يرد على السائل ..
     وصاح أحد الاتباع :
     ـ صلى على النبى .. يا جدع .. صلى ..
     وصلى الجميع .. وكبروا واهتزت للمعجزة الأولى أسلاك البرق .. فقـد خطى الشيخ .. جاء من القاهرة إلى أسيوط .. أسرع من الصوت .. فى أجواز الفضاء ..
     وخرجت الجموع من المحطة .. ولم يركبوا سيارات لأن الشيخ كان يلذ له أن يسير على رأس هذه المظاهرة فى قلب المدينة .. ليراه الناس ووراءه هذا الجمع الغفير ..
***  
     وبعد أن خرجوا من المدينة ركبوا مركبا كبيرا يعبر بهم النيل ، لأن القرية على العدوة الأخرى .. ونشرت المركب شراعها وانطلقت .. ولكن الجو كان حارا .. والريح ساكنا .. وكان التيار يجذب المركب إلى الوراء .. أكثر مما يدفعها القلع إلى الأمام ..
     وظهر الضجر على وجه الركاب .. ونظروا إلى الشيخ ينتظرون منه المعجزة ..
     ورفع رأسه ومد بصره .. فرأى السحب تتفرق من بعيد مؤذنه بمقدم الريح .. فأخذ يتمتم ووجهه إلى السماء .. ثم وضع يده اليمنى فى الماء .. وحرك شفتيه ..
     وهبت الريح وشال القلع .. وشقت المركب التيار .. وصاح أحد الركاب :
     ـ صلوا .. على النبى .. صلوا ..
     وكانت المعجزة الثانية ..
***   
     وعندما بلغوا الشاطىء ، كانت القرية كلها تستقبل الشيخ .. وكل واحد يحاول أن يقترب منه ويلمس ثوبه لتحل عليه البركة .. وخرج المريض العاجـز .. وحتى المشـلول .. والمقعد حمل على الأكتاف .. ليرى الشيخ .. وينتظر البركة .. وخرجت العاقر .. والمطلقة .. وذات الضرة .. والتى تلد الأناث .. والمتزوجه كهلا .. خرجن ليلقين الشيخ .. ويتمسحن به .. ويطلبن الأمانى والأحلام .. ومر الشيخ وهو سائر فى الطريق على " مسطاح " رجل .. وكان قد كوم الغلـة فى الجرن .. ووضع عليها القلة الفخارية .. وابتدأ فى الكيل ..
     ونظر الفلاح المسكين إلى الشيخ الوقور .. ذى الذقن الطويلة والعباءة الفضفاضة .. نظرة المسكين إلى نبى ..
     وصاح :
     ـ باركنا .. يا سيدنا الشيخ .. باركنا .. وسيدى جلال تباركنا ..
     ومال الشيخ على المسطاح .. ووضع يده فى الغلة .. وعندما كال الفلاح الغلة .. أتى الفدان بثمانية عشر أردبا ..
     وتطايرت المعجزة الثالثة .. ورقص الفلاحون وهللوا .. ونسى هؤلاء البسطاء المساكين .. أن زراعة هذا الفلاح فى العام السابق أتت بأكثر من ثلاثين " نقيصة " للفدان .. وأنه أحسن من يزرع الأذرة من الفلاحين ..
***   
     ومر الشيخ على وابور الطحين .. وكان الوابور يعاكس ويتعطل كثيرا .. حتى أتعب صاحبه .. وأخيرا جاء له بمهندس المانى .. ففكه كله وربط العدد من جديد ..
     وفى اللحظة التى مر فيها الشيخ على الماكينة وكانت تحت الجسر وألقى نظرته عليها .. كان " العادم " يخرج من الماسورة .. وصوت الماكينة .. يتك ..
     وانطلقت المعجزة الرابعة أسرع من سابقاتها ..
***    
     وعندما دخل القرية كانت الطبول تدق والمزامير تزمر .. والرايات مرفوعة .. واشتد التصاق الفلاحين به واحتشادهم حوله .. ورآهم يتنازعون على أول من يتشرف بزيارته .. ويتقاتلون ..
     وأطرق الشيخ ثم رفع رأسه كأنه يستلهم الوحى ..
     وقال :
     ـ سأدخل هذا البيت ..
     وعندما كان يشرب القهوة فى فناء البيت .. سمع الزغاريد .. فقد وضعت زوجة صاحب الدار مولودا ذكرا .. لأول مرة فى حياتها .. بعد خمس بنات .. وجاء والد المولود .. يقبل أقدام الشيخ وهو يدفعه عنه فى تواضع الانبياء ..
     وطارت المعجزة الخامسة وحلقت فى الأجواء .. وهبطت على كل قرية فى المديرية جمعاء ..
***   
     وطاف الشيخ بالقرية ومعه الامانى المعسولة .. وأحلام اليقظة .. وكان الشيخ يوزع بركته بالتساوى على الجميع ..
     وظل الشيخ يطوف بالقرية حتى جاءت صلاة العشاء فصلوا وراءه فى المسجد ..
     وبعد الصلاة .. مدت موائد الطعام فى الساحة التى اختارها الشيخ للذكر ..
     وكان كل فلاح يتسابق بما عنده .. ذبحوا العجول والخراف وقدموا الفت والثريد والفطير .. على الطبالى .. ورفعوا المشاعل وجلسوا يأكلون .. ما لذ وطاب ..
     وكان الخروف الذى على مائدة الشيخ تتصاعد منه رائحة زكية .. ولا ينقص أبدا .. شهد بذلك الجميع ..
     والقلة التى رفعها إلى شفتيه شرب منها مع الحاضرين .. وظلت ممتلئة .. كما هى ..
     وهكذا انطلقت المعجزة السادسة تسابق الريح ..
***   
     وبعد العشاء .. والشاى الأسود ..  بدت حلقة الذكر فى الساحة ، ووقف الشيخ فى وسط الصف وحوله أتباعه ومريدوه .. وفى صفوف وراءهم وقف الفلاحون ..
     وابتدأ الذكر بهمهمة لامعنى لها .. ثم بتمتمة .. ولم يكن اسم الله يذكر على لسان ..
     ثم ابتدأ الطواف .. والزبد على الشفاة .. والصراخ .. ولوثة المشعوذين .. وكان الشيخ يرتفع بجذعه وينحنى حتى تلامس رأسه الأرض ..
     وعندما كان يرفع رأسه كان يرى القرويات على سطوح المنازل متحجبات وسافرات يشاهدن الذكر ويتهامسن ..
     وكان الشيخ عندما ينفرد نظره بمليحة منهن كان يطيل النظر إليها ثم يغلق عينيه كأنه يسبح ..
     وشاهد فى المنزل المواجه له صبية فى جمال القمر .. وعندما انتهى الذكر بعد منتصف الليل .. وأخذ الفلاحون يتنازعون على البيت الذى ستحل فيه بركة النوم ..
     قال لهم الشيخ :
     ـ الجار أحق بالتشريف ..
     واختار بيت الصبية لينام فيه ..
     وكان البيت لقروى متوسط الحال .. ورث من أبيه فدانين وتزوج من هذه الصبية الحلوة .. لينجب ويأتى بالوريث .. ولكن بعد زواج أربع سنوات .. لم يأت الوريث .. وكان المسكين قلقا .. ومتبرما .. وعرض نفسـه على جميع الأطباء فى المدينة .. وحمل جميع أنواع الأحجبة .. دون نتيجة ..
     وطار قلب الفلاح من الفرح عندما دخل الشيخ بيته .. وتجمع الناس حول الدار .. ولكن الاتباع صرفوا الناس لينام الشيخ .. فى هدوء ..
     وحرصا على راحة الشيخ ترك الفلاح القاعة العلوية للشيخ .. ونزل لينام وحده فى الفناء ..
     وظلت الزوجة الصبية تخدم الشيخ وتقدم له الماء فى الابريق ليتوضأ ويصلى الفجر .. وهى جالسة أمامه .. وكان هو يمسح على جبينها وشعرها ويتمتم ثم أخذ يباركها على طريقته ..
***    
     وارتفعت شمس الضحى .. وحلت صلاة الجمعـة فى مسجد القرية .. ولم يحضر الشيخ الصلاة ..
     وقال الفلاحون :
     ـ انه يصلى فى الكعبة ..
***    
     وجاءت المعجزة السابعة .. متأخرة .. قليلا فقد حملت توحيدة زوجة الفلاح العاقر الذى باركه الشيخ ونام فى بيته .. وتأكد الحمل بعد ثلاثة شهور من سفر الشيخ ..
     وطبلت القرية كلها ورقصت لهذه المعجزة لأنها كانت أروع المعجزات ..
==================================== 
نشرت القصة بصحيفة الجمهورية بالعدد 335 بتاريخ 11/11/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
====================================














فراغ

كان قرص الشمس يقبل مودعا بروج العمارة الشاهقة فى شارع المطار .. وكان الناس يفتحون النوافذ ويستقبلون نسمات الغروب .. الندية .. بعد نهار تلظت فيه النار .. وفتحت نجية هانم نافذة غرفتها فى الدور الرابع من البناية فهب النسيم الرخى وحرك الستائر وداعب شعرها ولمحت وهى تنثنى عن النافذة .. جارتها نرجس فى الشرفة جالسة تطرز فحيتها بهزة من رأسها وابتسامة .. وكانت الأنوار تسطع فى المنزل المقابل وبدت الأعلام والزينات على الباب ..
وسألت نجية جارتها كأنها تستيقن وإن كانت الدلائل كلها تغنى عن السؤال ..
ـ فرح ..؟
ـ أيوه والعريس مهندس .. وأبو العروسة .. مقاول .. وغنى ..
ـ علشان كده .. عاملين الزينات دى كلها ..
ـ آه .. وفيه .. غناء .. ورقص ..
تعالى عندى علشان تتفرجى كويس ..
ـ مرسى .. حاسة بصداع ..
ـ علشان قاعده لوحدك .. تعالى .. اتفرجى ..
ـ بعد شوية ..
وعادت نجية إلى داخل الشقة وعلى فمها طيف ابتسامة لقد .. بدأت حياتها الزوجية من سبع سنوات مضت بمثل هذه الزينات .. بمثل هذه الأنوار .. وهذه الموسيقى .. بدأت حياتها بالغناء والرقص والكوشة .. بدأت بكل هذه المساخر .. ثم انتهت إلى حيث تقف الآن ..
مشت فى شقتها الصغيرة ترتب الفراش والأثاث بعد راحة القيلولة .. كانت تتحرك فى لين ورشاقة من غرفة إلى غرفة .. هصرت الستر .. وتركت نوافذ البيت مغلقة وفتحت نافذة غرفتها فقط وهى النافذة الوحيدة التى تفتحها فى الليل .. لأنها تقضى الليل فى البيت وحيدة .. منذ سنوات وهى تفعل هذا .. تفتح هذه النافذة .. وتترك نوافذ البيت الأخرى مغلقة ساكنة .. وكانت خادمتها الصغيرة تنام من الغروب بعد أن يخرج زوجها إلى عمله .. من الغروب تحس الطفلة المسكينة بالنوم يداعب أجفانها فتستسلم للرقاد بعد التعب والمشاوير الكثيرة التى تعملها فى النهار لسيدها .. فهو يرسلها إلى السوق مائة مرة فى اليوم .. لشراء كل الأشياء الصغيرة التافهة والصغيرة .. وكانت نجية هانم تحس بالعذاب الذى تكابده الفتاة .. ولذلك تشفق عليها وتتركها تنام مبكرة .. وتبقى هى وحدها ساهرة وخائفة ..
فعلى الرغم من كثرة السكان فى العمارة الكبيرة .. فقد كانت تخاف .. وكانت تسمع أخبار النساء اللواتى يقضين الليل وحيدات وتحدث لهن الحوادث .. السرقة والقتل .. فتخاف وترتعش .. ولا تفتح الباب إلا بعد أن تتأكد من الطارق .. وكانت هذه الحياة المذعورة .. قد أنهكت أعصابها .. حتى أصبحت ترتجف من أقل حركة تسمعها فى الداخل أو الخارج .. كانت تعيش بأعصابها ..
وكانت حياة الفراغ فى الليل الطويل قد جعلتها تقرأ وتعنى بالبيت فزينته وزخرفته وبدت الشقة أنيقة رائعة كأنما رسم أثاثها وحيطانها رسام ..
ولكن هذه الرفاهية فى البيت لم تمنعها من الشعور بالوحشة .. كان زوجها سعيدا يعمل فى الليل فى المطار .. ومنذ تزوجته وهو موظف فى شركة من شركات الطيران الكبيرة ويبدأ عمله بعد الغروب .. وكانت لا تراه فى الليل إلا مرتين فى الأسبوع .. وبقية الليالى يقضيها فى الخارج .. ولكن القلق الأكبر كان يأتيها من أعماق نفسها .. كانت تتصور الزواج جنة رائعة كلها أحلام ذهبية .. فإذا بها تلقى فى صحراء .. دون شفقة ولا رحمة ..
كان زوجها مشغولا بعمله ومتفرغا له ومتفانيا فيه .. ليبرز على أقرانه وينتصر فى معركة الحياة .. ولكن لا قيمة لهذه الأشياء فى نظرها مادام أنه بعيد عنها ولا يحوطها بعواطفه ولا يلمس قلبها ..
***
هفا إلى سمعها .. صوت الآلات الموسيقية فى المنزل المقابل .. وسمعت نرجس تناديها وتكرر لها الدعوة .. فذهبت إلى هناك .. وجلست المرأتان فى الشرفة تشاهدان الرقص على سطح البيت المقابل .. وكانت الراقصة تدور بالصاجات .. وتتثنى .. ويهتز جسمها ويلتف كالثعبان ثم أخذت ترقص رقصة البطن فاحمر وجه نجية ..
وبدأ الغناء مصحوبا بالتخت .. واختلط الرجال بالنساء .. وظهرت العروس ..
ـ حلوة ..
ـ بس قصيرة شوية ..
ـ لكن تقاطيعها حلوة ..
وسمعت نرجس جرس الباب فنهضت إليه ..
ـ جوزك ..
ـ لأ .. ميجيش دلوقت .. متخافيش ..
ودخلت رجاء .. وهى تقول :
ـ قاعدين فى البلكونة .. بتتفرجوا على الفرح ..
ـ هاتيلك كرسى ..
وكانت رجاء قريبة لنرجس .. خطبت وهى صغيرة من شاب .. ثم فسخت الخطوبة .. ولم يتقدم لها أحد بعد ذلك ..
واضطرت أن تخرج للحياة وتتوظف .. واستغرقها العمل ولكن عودها جف .. وظلت كشجرة الخريف .. جافة عارية من الزهر .. ونظرت إليها نجية وحزنت لحالها .. إن هذه الفتاة فى حاجة إلى من يلمس قلبها .. هذا ما تحتاجه المرأة فى الحقيقة .. لمسة القلب وهذا ما توده هى المتزوجة من شاب ناجح فى عمله .. ولا يشكو من مرض .. ولكنها .. فى حاجة إلى لمسة القلب .. لتعود إليها روحها .. القلقة .. روحها الغائبة عنها ..
نظرت إلى رجاء وتأسفت لحالها .. إنها تشعر مثلها بالفراغ .. كان وجهها شاحبا .. ورغم أنها فى الثلاثين .. تبدو وكأنها اقتربت من الخمسين .. كانت روحها المعذبة تصرخ ..
وأخذت النسوة يتحدثن فى كل الشئون وأعينهن على الفرح وما يجرى فيه .. حتى استفقن .. على رنين الجرس الخارجى وقالت نجية وهى تنهض بسرعة :
ـ جوزك .. حتما ..
ومشت .. وراء .. نرجس .. فى اتجاه الباب ..
ودخل الزوج .. وعلى وجهه التعب والكآبة .. ولم ير نجية المنزوية وراء الباب ولما بعد .. خرجت تجرى إلى شقتها ..
***
ودخلت نجية بيتها .. وتمددت على السرير .. تقرأ كعادتها حتى يأتيها النوم ..
وكانت الساعة قد جاوزت العاشرة وسمعت رنين الجرس الخارجى .. فذعرت .. ثم تذكرت أن زوجها كثيرا ما ينسى بعض أوراقه أو ساعته أو نظارته .. فيرسل إليها الساعى لأخذها .. ولكنها لم تجد الساعى كما قدرت بل وجدت زميل زوجها عادل على الباب ..
وناولها لفة من زوجها وقال :
ـ سعيد سهران للصبح .. علشان عبد السميع عيان ..
ـ المسألة واحد .. يجىء الساعة ثلاثة .. زى ستة .. تفضل ..
ـ مرسى .. تعبان لازم أروح ..
ـ تعبك سعيد .. أصله متعب .. بيتعب كل أصحابه .. إيه أخبار مراتك ..؟
يمكن تيجى أول الشهر .. المهم الأولاد ضاعت عليهم السنة ..
ـ معذورة .. دى أمها ..
ـ لكن مش كده .. بقى لها ثلاثة شهور ..
ـ لو كنت أنا اللى ماتت أمى كنت قعدت سنة ..
ـ سنة .. أبدا .. أنت كنت قعدت أسبوع واحد .. أنا عارفك .. لكن بثينة متقدرش الأمور جاهلة .. فكرت أكثر من مرة فى الطلاق ..
ـ مشتاق إلى مراتك ..؟
ـ طبعا مشتاق للأولاد ..
ـ روح هاتها ..
ـ يمكن أسافر .. تصبحى على خير ..
ـ وأنت بخير .. مرسى ..
ونزل السلم وهو يشعر بأن فى عينى نجية شيئا هزه لأول مرة ..
***
وكانت الشركة التى يعمل فيها سعيد قد وسعت دائرة خطوطها .. وافتتحت لها فرعا جديدا فى جدة .. بمناسبة موسم الحج .. وانتدبت سعيدا ليشرف على العمل هناك .. ودخل البيت على نجية وأخبرها بهذا ..
فاستاءت .. وسألته :
ـ حتغيب كام يوم ..؟
ـ يمكن شهرين .. يمكن أسبوع .. مش عارف .. حسب الشغل ..
ـ ولكن أنا لازم أعرف ..
ـ أنا سهران طول الليل .. سيبينى أنام .. ولماأصحى نبقى نتكلم .. وعادل سيمر عليك إن كنت عاوزة حاجة ..
فتألمت .. وخرجت من الغرفة .. ولما استيقظ حلق ذقنه بسرعة .. وارتدى ملابسه بسرعة كعادته .. وتحرك فى البيت سريعا .. وجلس يلتهم الطعام .. ورفع وجهه إلى نجية .. وقال :
ـ التليفون .. يمكن يركب هذا الشهر علشان أكلمك من جدة ..
فضحكت ..
ـ بتضحكى ليه ..؟
ـ علشان أنت ما بتتكلمشى فى كل أربعة وعشرين ساعة خمس كلمات .. حتقول إيه فى التليفون ..؟
ـ أبدا ما بتكلمش ..
ـ أبدا .. ونسيت فى عيشتى معاك الكلام .. أصبحت خرساء .. مثلك ..
ـ آسف طبعى كده .. ولماذا لا تثرثرين مع الجيران ..؟
ـ كنت أحب لو أثرثر معك .. ولكن متى .. أنت تجىء لتنام وتصحو لتذهب ..
ـ هل ندمت .. لا ينقصك شىء .. وعندك .. كل ما تحتاجه المرأة ..
ـ ينقصنى أهم شىء ..
ـ ماذا ..؟
ـ أن أشعر بأننى أنثى ..
ـ هل أنا مقصر فى ...
ـ لا أقصد هذا .. وحتى فى هذا تبدو متوحشا كأنك تود أن تفرغ من مهمة .. وإنما أقصد أن تعاملنى بلطف ورقة .. كإنسانة تعيش وتتنفس .. كلمنى .. حادثنى فى أتفه الأشياء .. ناغينى .. أنت .. جاد أكثر من اللازم ..
ـ أعرف أن المرأة تحب التفاهة والأحاديث التافهة ..
ـ ومن هذه الأحاديث التافهة نعيش .. هكذا خلقنا ..
ـ هل من الضرورى أن تقولى هذا .. وتنكدى علىّ وأنا مسافر ..
ـ أنت السبب .. ولقد صبرت طويلا على طبعك الغريب ..
رافقتك السلامة .. آسفة أعصابى تالفة .. أكتب إلىّ وعد سريعا ..
وبدا عليها التأثر وهى تودعه فعانقها .. وانصرف مسرعا ..
***
وزارها عادل بعد يومين وأصبح يتردد على بيت نجية .. ويقوم بكل شئونها .. كان يبقى معها ربع أو ثلث ساعة .. ويحادثها على بسطة السلم وطال غياب الزوج .. ووجد عادل شيئا ينمو داخل نفسه وهو لا يدرى .. ولم يستطع تحديده .. على وجه الدقة ..
***
وذات مساء فتحت له الباب وكانت فى أروع زينة ..
ـ جاية من السينما ..؟
ـ أبدا .. مادام سعيد غايب مابخرجش خالص ..
وسر بهذا الإخلاص ..
ـ لكن ده حرام .. أنت حابسه نفسك ليه كده .. بكره لازم أوديك السينما ..
ـ هو قال لك وديها السينما ..
ـ لأ ..
ـ إذن مش رايحيين ..
ـ طيب روحى .. مع نرجس هانم ولا حد من صاحباتك ..
ـ مفيش مزاج ..
ـ لازم تتسلى ..
ـ أتسلى بالقراءة وهى أحسن تسلية عندى .. بس لما تشوف رواية جديدة فى المكتبة هاتها ..
ـ حاضر ..
ووجدها طاوية الجزء السابع من مذكرات كازانوفا .. على الأريكة .. فنظر إلى الكتاب وهو يفكر فى حياة هذا الرجل المغامر .. وجاءت له بكوب من عصير الليمون فتناوله منها وعيناه تشكرانها .. وتتأملان السواد والبريق فى عينيها ..
ورآها مثله تشعر بالفراغ والوحشة .. وعندما تحركت فى البيت تبعها ببصره .. وكانت ترتدى رداء سابغا .. وتبدو فى رشاقة الطاووس .. وجماله .. ونظر إليها فى رقة .. وحنان .. أنزلا السكينة على روحها القلقة ..
وعندما خرج عادل ورفعت الكتاب لتضعه فى رف الكتب أدركت لماذا نجح كازانوفا مع النساء .. كان يلمس القلب ..
***
وذات مساء .. حمل إليها هدية صغيرة .. فتناولتها منه مسرورة .. وهى تتمتم :
ـ حاقبلها بس على شرط ..
ـ إيه ..؟
ـ لازم تقبل .. أو .. أردها لك ..
ـ أنا عاوز حاجة بس ..
ـ إيه ..
ـ أشوفك ..
فلوت عنقها عنه .. واحمر وجهها .. كالجمر .. واتقد .. وأخذت تنظر إلى طرف السجادة ..
ـ ما أنت بتشوفنى كل يوم ..
ـ عاوز أشوفك فى النهار .. والليل .. فى كل وقت .. وساعة ..
وضحك ليغطى موقفه وقد أدرك أنه تجاوز الحدود .. ورفعت وجهها إلى وجهه :
ـ لسه ما اشتقتش لمراتك ..؟
ـ اشتقت ..
ـ أمال سايبها ليه .. ألم تشعر بالفراغ ..
ـ هيه اللى سابتنى ..
ـ لكن لازم تروح تجيبها .. دى مجروحة ..
   وعندما سلم عليها على الباب وضغط على يدها ونظر إلى عينيها .. شعر باضطراب نفسه وبدت منه حركة من يود أن يلثم شعرها أو عنقها .. أو حتى شفتيها ولكنها دفعته بلطف وبراعة وأغلقت الباب ..
***
وفى اليوم التالى لم يأت كعادته .. ولكنه جاء فى اليوم الثالث .. وكان يلبس أجمل ثيابه ويبدو أنيقا .. ووجدت نفسها لأول مرة تشعر باضطراب وخوف فى حضرته .. وفتحت نوافذ البيت جميعا .. وعلى الأخص التى تطل على الجيران .. وقرعت بابها نرجس فدعتها للدخول وألحت ..
واضطر عادل بعد أن رأى نرجس فى شقة نجية أن يمكث قليلا بعد أن شرب القهوة ثم انصرف ..
***
وفى صباح يوم .. أحست نجية بشىء .. كانت تنتظره فى لهفة منذ سنوات .. ولما استراحت من تعب القىء .. وتيقنت من الأمر بلغ بها الفرح منتهاه .. فقد وجدت الشمس الذى سيملأ الفراغ ..
وغدت من فرط السعادة تناغيه .. كأنه تحرك فعلا .. فى أعماقها .. وملأ فراغها ..
ـ إن كنت ولد مش حخليك تشتغل بالليل .. وإن كنت بنت .. مش حجوزك أبدا لراجل زى أبوك .. يا باى ..
وابتسمت ..
***   
وفى المساء ..
سمعت جرس الباب الخارجى .. فلم تتحرك ظلت فى مكانها .. وعاود عادل الطرق ولكنها لم تفتح ..
*** 
وفى الصباح نهضت مبكرة قبل الشروق .. سعيدة مرحة .. وأخذت تعد الملابس الصغيرة للمولود ..

========================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 263 بتاريخ 7/1/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959 "
===========================   
 
 
 




الأمـــواج

     كانت المراكـب راسية فى ظل الغسق محملة بالغلال والتبن والأكياس .. والبلاليص الفارغة .. فى انتظار فتح الهويس فى الصباح ..
     كانت قد القت مرساها فى هذه " الموردة " لتستريح ليلة من عناء السفر .. طوت أشرعتها وخلعت مجاديفها وربطت زوارقهـا عند الدفة وسحبت حبالها وطوتها فى البكر ..
     وانطلق ملاحوها إلى القرية يتزودون بالطعام ويشربون الشاى فى القهوة ويشترون السجاير والتمباك والسكر .. وبقى فى كل سفينة شخص لحراستها .. واجتمع هؤلاء على سطح المراكب يشربون الشاى ويتسامرون ..
     وكانت الظلمة طاغية .. والفيضان عاليا .. والتيار شديدا .. ولكن الميناء الصغيرة ازدحمت بالمراكب حتى تغطت صفحة الماء .. وتلاقت المراكب الذاهبة إلى القاهرة والقادمة منها ..
     وكان من عادة الملاحين فى هذه الميناء أن يستريحوا ليلة بعد عبور الهويس " ويحلو " قبل الفجر .. وينطلقوا إلى المنيا فى نفس واحد !!
***

      وكانت معدية " البر " ترسو خلف هذه المراكب تحت ثلاث أشجار من السنط يتجمع تحتها الفلاحون مستظلين من وهج الشمس ولفح الرمضاء ..
     ومن منتصف أغسطس تصبـح الشجرات الثلاث تحت رحمة الأقدار .. ولا يبقى منها إلا رؤوسها تصارع الموج .. ويرسب كل ما حولها فى القاع ..
     ولكن " صابر " رغم أهوال النيل كان يعدى وينقل العابرين من الغرب إلى الشرق ..
     وكان يقطع هذا البر بمركبه ويعيش فى الماء منذ وعى للدنيا .. ولكن الرجل الضاحك كصفحة الماء .. المشرق الوجه أبدا .. حدث ما عكر صفو حياته منذ سنين فانقلب وجهه عابسا أغبر .. كأن شيئا يرمضه على الدوام .. وغدا عصبيا .. كثير الصراخ يهدىء أعصابه بالقهوة والدخـان ويكثر منهما .. وإذا افتقدهما غدا مجنونا أو شبه مجنون .. ولهذا كانا فى جيبه أبدا ..
     وكان قد جلس مع نفر من الملاحين العابرين على ظهر مركب يسألهم عن الأحوال فى ساحل روض الفرج .. وترعة المحمودية .. وعن بلدياته الريس جلال .. والريس تمام .. وعن مقطورات الصنادل .. وفى خلال حديثه ينظر إلى البر .. ويشرب القهوة ..
     وكانت الأشجار الغارقة فى الماء الأسود والأعشاب البرية المختلطة بالوحل .. تعطى رائحة الطحلب المتعفن .. وكان كل ما على الأرض جـامدا ساكنا كأنه الرمس .. أما النهر فكان هو الشىء الوحيد المتحرك .. وكل ما فيه يتدفق بالحياة .. وكانت المراكب الصغيرة الفارغة تروح وتجىء مع الموج مقتربة من الساحل ومبتعدة عنه .. وهى تشد حبالها ..
     أما المراكب الكبيرة فكانت ثابتــة كالطود مثقلـة بحمولتها ..
     وكان هناك على الساحل الحجرى فى الشمال نفر من العمال يعملون فى الليل ويحملون سفينة ضخمة بالأذرة .. وأرجلهم تجرى على السقالات .. كالمردة .. رغم الظلام ..
     وكانت القرية على بعد ميل واحد من " الموردة " وتبدو فوانيسها الكابية ونخيلهـا السـامق .. كما تبدو هناك قهوة ساهرة فى أول الدرب .. وبها راديو يرسل الأنغام ..
     وخلف المراكب الراسية .. يظهر الساحل الرملى .. وكان بعض الصيادين يقتربون منه وهم يطوون الشباك والتيار يغالبهم .. وبلغوا بالزورق الصغير الشاطىء بعد صراع جبار مع الموج والتيار ..
     وكان صـابر يراقبهم وبمجرد أن وضعوا أرجلهم على البر قفز إليهم .. وأخذ من أحدهم شيئا طواه فى جيبه ..
     وكان العمال قد فرغوا من شحن السفينة وخفت الحركة وانقطعت الأصـوات .. وتمدد الملاحون على ظهر السفن .. وذهب كل انسان لينام ..
***
     وبقى صابر ساهرا يشرب القهوة .. ويتحدث مع نفر من " المراكبية " عن حياة " البحر " وظهر على البر شبح يقترب من حبال المراكب ظهرت بجواره سيدة ..
      وقال الرجل الغريب لصابر :
     ـ عدينا .. يا عم ..
     ـ أنت شايف الريح يا بنى .. مفيش همسه .. والبحر شديد .. والملاح الذى يشتغل معى روح .. ولا أحب أن أعدى فى الليل .. نغرق .. ولا نطول برا ..
     ـ معايا ست .. وعيب لما تنام تحت الريح .. خذ ما تريد .
     ونظر صابر إلى السيدة وظهر بياض وجهها فى الظلام .. وكانت سافرة وفى عينيها جمال ..
     وقال :
     ـ ليست المسألة مسألة نقود .. وانما مسألة أرواح .. والبحر لايرحم .. لايرحم أحدا ومع هذا سأذهب إلى هؤلاء المراكبيـة .. عسى أن أحـدا فيهم من يرافقنى فى هـذه الرحلة ..
     وذهب صابر إلى المراكب وأخذ يوقظ الملاحين .. ويرجوهم أن يرافقوه .. وسيجزل لهم العطاء .. ولكنهم رفضوا جميعا وعادوا إلى النوم .. وأخيرا قبل اثنان منهم .. ومشى أمامهما صابر إلى المركب ..
***
     ومدوا السقالة للسيدة والرجل ثم انطلقوا بالمعدية .. وكان الموج عاليا .. والنيل واسعا .. والريح راكدة .. وكانوا ذاهبين مع التيار .. فاستـعملوا المجاديف ليعبروا النيل إلى الشاطىء الثانى .. ولم ينشروا القلع .. وكان الملاحان اللذان استعان بهما صابر هما اللذان يجدفان .. وصابر ممسكا بالدفة ..
     وكان قد فرش للسيدة والرجل على مقعد فى المؤخرة ..
     وبعد أن جلست السيدة رأت تحت رجليها شيئا مكورا فى بطن السفينة ولما رأت وجهه عرفت أنه آدمى .
     ولاحظ صابر نظرة السيدة إلى الغلام .. فصاح فيه ..
     ـ قم .. ياواد .. قم ..
     فاستنكرت السيدة ..
     ـ دعه .. خليه نايم .. انه طفل .. ولا يضايقنا فى شىء ..
     ـ إنى أصحيه .. ليعمل قهوة .. قم يا واد نمت كفاية .. اعمل قهوة ..
 
     ودعك الغلام عينيه .. وغاب فى جوف السفينة ..
     وكانت الأمواج عالية .. وخيل إلى عبد الرازق وزوجته أن السفينة تصعد بهما جبالا من الرمال وتهبط مثلها ..
     وكانت سمـيرة خائفة ولا تحب أن تركب " البحر " فى الليل فإنه
شىء مهول ولكنـها لم تستطـع أن ترفض رغبة زوجها فى أن يزور أهله .. ويركب هذا الطريق ..
     وكان المـوج يلطم المركب بعنف ويرقص بها .. والماء أسود كالليل ..
     وعندما أصبحوا فى وسط النهر .. غابوا فى ليل من بعده ليل .. ودخلوا فى ظلمات بعضها فوق بعض ظلمات ..
     وكان صابر قد احتضن الدفة الغارقة فى الماء .. وهو يدخن ويستعين على أعصابه بالقهوة ..
     أما الملاحان الآخران فكانا يجدفان بعنف وبدا أن العبء كله ملقى عليهما وأنهما يصارعان موجا جبارا عاتيا .. وكانت عيونهما على السيدة الجميلة السافرة .. وكأنهما يستمدان منها القوة على هذا الصراع .. وربط بينهما الليل والسكون برباط صامت ولكنه قوى .. وأدركا أنهما يجدفان لها وحدها .. ويصارعان الموت من أجلها .. لتعيش هى .. ويعيش الباقى على هامش حياتها .. أدركا أنهما أحباها من أول نظرة .. كما يحبان القمر .. والبحر والنجوم .. دون غاية أو نفـع ملمـوس .. وأنه لولاهـا ما جدفا .. ولا أبحرا فى الليل ..
     وتحدث الرجال فى كل الشئون بطلاقة وحرية .. حرية من يعيش دوما تحت السماء وفوق الماء .. ولاحظ عبد الرازق أنهم يلاحظون جيدا أن هناك سـيدة معهم فى المركب فلم تخرج من أفواههم كلمة نابية .. تجرح شعور الأنثى .. كما أنهم كانوا يحرصون على راحتها وانزال السكينة على قلبها فابعدوا المركب عن الدوامات ومواطن الخطر ..
     ولم تستطع سميرة أن تكشف أمامهم أكثر من وجهها .. ظلت طول الرحلة جالسة وإن هيأوا لها مكانا للنوم .. وكانت تود أن تضطجع .. وتمد ساقيها .. وتطلق جسمها على سجيته يأخذ راحته .. وأن تملأ رئتيها وهى نائمة مسترخية من هواء النهر .. ولكنها لم تستطع أن تنام وظلت جالسة صامتة ..
     وعندما انكشفت ساقاها عرضا أمام الرجال غطتها سريعا وخدها فى لون التفاح .. وظلت صامتة تستمع إلى الحديث الذى يدور بين الرجال دون أن تشترك فيه ..
***
     ورأى صابر عن بعد شيئا تتقاذفه الأمواج .. فركز بصره عليه وقد انقلبت سحنته لمرآه .. ثم حرك الدفة نحوه ..
     وسأله أحد الملاحين .. عندما رآه يرجع بهم ..
     ـ إلى أين ..؟
     ـ نرى ذلك الشىء الغارق هناك ..
     ـ انها بهيمة ..
     ومضوا بالمركب حتى لامسوا الجثة وعرفوا أنها بهيمة .. واقتضى ذلك منهم وقتا وجهدا جبارا ..
     ولما عادوا إلى سيرهم الأول سأل عبد الرازق :
     ـ لماذا كل هذا التعب يا عم صابر .. فى سبيل شىء غارق ..
     ـ اعذرنى .. يا ابنى كان لابد أن أتأكد من أنه ليس بإنسان ..
     ـ وإذا كان ماذا تعمل له ..  البحر واسع وكم يحمل فى جوفه من آدميين ..
     ـ أبدا البحر لايحمل فى جوفه شيئا .. وانما يقذف بكل شىء إلى الساحل ..
     وتقلص وجه صابر وهو يقول :
     ـ حدثت لى حادثة منذ سنوات .. لم أترك بعدها غريقا فى الماء .. وأعرضه للسمك .. والكلاب ..
     ـ انه ميت ..
     ـ أبدا .. انه حى .. حى .. حتى يوارى فى التراب ..

     ـ وإذا لم يدفن ..؟
     ـ ستظل روحه تصرخ .. وتصرخ .. ولقد جربت هذا وقاسيت منه .. منذ سـنوات كنـا " محملين " من نجع حمادى وذاهبين إلى القاهرة .. وكانت المركب صغيرة ومعى جابر ابن عبد الموجود من بلدنا .. ولا ملاح سواه .. وكانت الريح مواتية فبلغنا سوهاج .. وبعد يوم واحد كنا مستريحين خلف خزان أسيوط .. منتظرين الهويس ..
     ثم أقلعنا .. وقبل أن نقترب من منفلوط عاكستنا الريح .. وكان الموج عاتيا .. فذهب جابر يشد الحبال .. وتلفت فوجدته ساقطا فى الماء .. ولا أدرى كيف سقط .. وكان الموقف مروعا ومذهلا .. ولكننى كنت أعرف أن الغلام يجيد السباحة فاطمأننت وألقيت له .. بمجداف .. ثم بالمدراه .. ثم بكل ما فى السفينة من قطع خشبية .. ليستعين بها على المـوج والتيار .. ولكنه لم يستطع أن يتعلق بواحدة منها .. وظل يسبح ثم غاص .. وظهر .. ثم غاص .. وظهر مرة أخرى وذراعـه تتحرك .. وفى المرة الثالثة .. أخذته الدوامة .. ولم أره .. بعدها ..
     ورسوت تحت قرية من القرى .. وبلغت العمدة .. ثم أقلعت .. وفى اليوم الخامس رأيت جثته .. تنطح جانب المركب .. ولكننى لم أنتشلها .. وتركته للتيار وقلت لنفسى انه مات .. وقدر عليه أن يمـوت فى الماء فليكن الماء قبره ومثواه ..
     ولما عدت إلى بلدى .. أخبرت أمه بما حدث .. فبكت ..      وسألتنى :
     ـ وهل دفنته ..؟
     ـ أجل ..
     ـ أين ..؟
     وهزنى السؤال فاضطربت ثم قلت سريعا ..
     ـ فى منفلوط .. وكلها أرض الله ..
     ـ وأين الحجاب الذى على قلبه ..؟
     ـ نسيته .. أنسانيه الحزن ..
     واطمأنت ..
     ولكن قلبى لم يطمئن .. فكنت إذا جن الليل أتصوره وهو ينطح جدار المركب لأنتشله .. وأدفنه .. ولكننى لم أفعل وتركته للأمواج .. فكنت أصرخ .. وأسمع روح الغلام تصرخ ومن وقتها وأنا آكل الأفيون ..
     وتأثرت سميرة من حديث صابر وبكت ..
***
     وبلغوا ساحل القرية وطلع عبد الرازق وسميرة من المركب .. وبعد أن منحا صابرا أجرا طيبا ..
     وعـادت المركـب تستقبل من طريقها ما استدبرت .. ولكن بمشقة ..
     وقال صابر لابنه لما رأى المركب لاتتحرك إلى الأمام ..
     ـ تعال امسك الدفة .. وخلينى أجدف مع بلدياتنا ..
     ـ خليه مستريح ..
     ـ لا امسك ..
     وأمسك الغلام بالدفة .. وجدف أبوه مع الرجلين .. وكانوا فى العودة ضد التيار والموج عاليا والريح لاتزال راكدة .. فلم يتقدموا من مكانهم .. وغلبهم التيار .. لم تقو عليه المجاديف ..
     ـ حل يا حسن القلع ..
     فأخذ الغلام .. يشد الحبل .. وبقيت عقدة لم تحل فى أعلا السارية فلم ينتشر القلع ..
     ـ اطلع حلها ..
     وترك الغلام الدفة لأبيه واندفع إلى السارية .. ولم يبصروا به وهو ساقط من أعلا وانما أحسوا بجسمه وهو ساقط فى الماء وصرخوا .. وقذف الأب بنفسه وراءه .. وظهر الغلام على السطح ثم غاص .. وراح فى الدوامة ..
     وأتت موجة عالية عاتية .. وأصبحت الدنيا كلها ظلمات .. وظلوا
 يبحثون ساعات دون جدوى .. وأخرج الملاحان الأب من الماء .. وظلا يواصلان البحث ..
***
     وكان صابر فى أعماقه يعرف أنه لاجدوى من البحث .. وأنه قد أن له بعد كل هذه السنوات .. أن يكفر عن ذنبه ..
     وترك المركب للأمواج .. وأفسح لنفسه مكانا عند الدفة وسجد سجدتين ..







================================   
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 333 بتاريخ 7/5/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=================================




الذئب


       ظهر الذئب فجأة فى قرية " تل عمران " فروع أهلها .. وشل حركة الفلاحين فى المزارع .. وبساتين النخيل .. وجعلهم يوقدون النيران فى أطراف الحقول .. ويطلقون البهائم من قيودها .. ويحبسون الأطفال فى المنازل من الغروب .. وأخذ الرجال الأشداء يهاجمونه عند سفح الجبل وفى المغاور وفى الأماكن التى يتصورون أنه رابض فيها .. وأطلقوا عليه .. أطلقوا علية أكثر من الف طلقة من كل أنواع البنادق والمدافع الرشاشة ..
      ولكنه كان يمرق كالسهم .. ويلف كالثعبان ويثب وثبة الأسد .. ويزوغ بين الكهوف كالثعلب ..
      وكانوا يرون عينيه تقدحان بالشرر .. بعد كل قتال ينشب بينه وبينهم فيعرفون أنه حى .. وأن جهودهم ذهبت هباء ..
                                     ***   
     ومرت سنة وسنة مثلها .. والفلاحون يرون الذئب على حدود القرية .. وأصبح الذئب أسطورة .. ثم نسوه فترة من الزمان .. ولكنه عاد واحتل تفكيرهم .. فقد نهش فخذ طفل .. وهاجم رجلا حتى صرعه ..
     فتجمع الفلاحون لمقاتلة هذا الوحش .. وخرجوا فى تجمعات لمحاصرته والقضاء عليه ..
***
     ولكنه كان لايعبأ بشىء من هذا كله .. وكان لايثنيه أمر عن فريسته .. وأصبحت حوادثه .. وتحركاته فى قلب الليل تدور على السنة الفلاحين فى القرى والنجوع ..
***
     وكان أهـل القرية يبيعون الملـح ويزرعون الشعير على ماء الأمطار .. فى رقعة صغيرة عند سفح الجبل .. وكانت هذه الرقعة لاتكفيهم .. ولا تقوم بأودهم .. فكانوا يتصـارعون على الحياة ويقتتلون ..
     وكترت حوادث السطو والنهب والأخذ بالثأر فى الطرقات والممرات الجبلية .. وندر أن يمر اسبوع دون أن تقع هناك حادثة مروعة ..
***
     وفى ليلة حالكة قتل الشيخ " تغيان " من زراع القرية وكان عائدا من البندر .. وطير الخبر إلى المركز .. وعرف اسم قاتله نعمان .. وكان فاتكا شديد البطش .. وبينه وبين القتيل خصومة قديمة ..
     وخرج المأمور على رأس فصيلة من الجند .. لتحقيق الحــادث وللقبــض على الجانى قبـل أن يهرب فى دروب الجبل ..
     ولما بلغ المأمور حدود القرية .. وجد أهلها على الجسر يبحثون عن شىء آخر .. عن غلام .. خرج بالبهائم إلى الحقل .. وعادت البهائم بدونه فتوجسوا شرا من الذئب .. وقالوا انه التقى به وأكله ..
     وخرجت أمه تصرخ وتلطم خديها .. وخرج على صراخها الفلاحون بهراواتهم وبنادقهم إلى المزارع .. وأصبح المأمور أمام حادثة جديدة فانطلق يطارد القاتل .. ويبحث عن جثة الغلام ..
***
     ولم يكتف الأهالى بهذا فاجتمع عند دوار " العمدة " حشد كبير من الناس .. وانطلقوا جميعا يبحثون عن الغلام فى كل مكان ..
***
     وبعـد سـاعات عادت كل هذه الجموع أمام " الدوار " بخفى حنين .. وكانت أم الغلام تصرخ وتولول وأبوه يبكى .. وكل حاضر من هذه الجموع يصرخ فى أعماقه ويشعر بالانكسار .. لأن الحيوان تغلب على الإنسان وبطش به ..
     ولما لم يعثروا على أى أثر للغلام .. سرت اشاعة مسرى النار فى الهشيم بأن الذئب أكل عظام الغلام ولحمه .. فخيم الحزن على النفوس ولطمت الأم خديها وتحولت القرية إلى مناحة ..
     وفى الساعة العاشرة ليلا سمع العمدة طلق النار بشدة .. واهتز الجو من الرصاص ونبحت الكلاب .. وتمنى العمدة فى هذه اللحظة أن تكون الداورية قد التقت بالذئب .. والتقت بالقاتل فصرعتهما .. معا .. ليستريح رجال الأمن من كل المتاعب ..
     وسمع بعد قليل أن الضربة كانت موجهة إلى الذئب .. وأن أحد الفلاحين صرعه عند التل فأرداه .. فتنفس العمدة الصعداء .. وخرج ليقابل الرجال الشجعان ..
    ورأى جموعهم تقترب فى الظلام وهى تجر شيئا على الأرض ولما اقتربوا من النور أدركوا أن الظلام خدعهم .. وأنهم قتلوا كلبا .. من كلاب القرية ..
***
     وأصبح أمل الأم بعد هذا أن يبحث لها العمدة عن عظام ابنها .. لتلقى عليه نظرة أخيرة .. وهى راضخة لحكم الله ..
***
     ومع نور الفجر .. ظهر شىء يتحرك على الجسر ..
     ظهر نعمان .. يحمل الغلام المفقود .. وكان الغلام بادى الاعياء من الدم الذى نزف منه .. وظهر من خلال ثوبه الممزق أسنان الحيوان فى لحمه ..
     وكان نعمان ساكن الجنان ويمشى مشية من لايروعه أى شىء فى الحياة ..
     وكانت بندقيته فى كتفه .. ولكنه ثنى مسورتها إلى الأرض .. وقبل أن يقترب من الرجال توقف .. ورأى سيارة البوليس من بعيد وحولها الجند .. فتسمر فى مكانه لحظات وانتفض جسمه وانتفخ وريده .. وهو ينظر إلى الغلام على صدره .. وقد شل جسمه عن الحركة ..
      ثم تقدم .. صامتا .. وعيون الرجال والجنود مسلطة عليه .. حتى وضع الغلام على صدر أمه ..
     وجفت القلوب .. وتحركت الأيدى على البنادق .. ولكن نعمان لم يحرك يده .. واستدار واتجه إلى سيارة البوليس الواقفة على الجسر .. وسلم سلاحه إلى الجندى الواقف هناك .. ثم ركب من الخلف ..
***
     وأحس المأمور بأن شيئا يضغط على عنقه كأنه يخنقه .. فحرك رباط عنقه ثم تقدم نحو السيارة وصاح فى السائق .
     ودار الموتور .. وانطلقت السيارة تحمل نعمان من الخلف .. مطوقا بالعساكر ..
     وفى الأمام جلس المأمور ومعه المعاون .. بجانب السائق ..
     وأخـذ نور الصبح .. يشعشع ووضحت الرؤية وأسرعت السيارة
تطوى الأرض طيا .. وفى أحد المنحنيات لمح المعــاون .. شيئا مكوما على الرمال .. وحوله خيوط من الدم ..
     فقال للمأمور :
     ـ انه هناك ..
     ـ من ..؟
     ـ الذئب ..
     ورفع المأمور رأسه ونظر إلى هناك ثم رد بصره من خلال النافذة الصغيرة إلى الرجل الجالس فى الخلف .. فوجده قـد نكس رأسه وأطرق وعينه إلى الأرض .. التى تجرى تحته ..





=================================   
نشرت القصة بصحيفة الشعب بالعدد 308 بتاريخ 9|4|1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=================================



الباب الزجاجى

كان جدى عبد الرحمن يزرع القطن .. وكان والدى يتاجر فيه ويقول .. أنه عصب الحياة .. وأنه الذهب الذى يدور فى السوق .. ويجعل لكل شىء قيمة .. ومع هذا مات دون أن يخلف لنا ثروة ..
وكنت الوحيد الذى ورث حرفة التجارة .. لأن أخى الأكبر مهران كان طبيبا ومنفصلا عنا مذ تخرج .. ولا شأن له بعمل أبيه ..
أما أنا فقد عشت من الصغر فى " الشونة " وخالطت التجار والناس .. ووجدت نفسى بعد وفاة والدى أبدأ من أول الطريق .. فكنت أشترى القطن بالرطل وأجمعه من الأولاد ومن صغار الفلاحين .. ثم أصبحت أشترى بنصف الكيس .. ووثق الناس فى .. وأصبحت أشترى وأدفع الثمن مؤجلا فى نهاية الموسم .. وبعد سنوات قليلة كنت أتعامل مع كبار التجار ..
ودار اسمى فى السوق .. وكان كل من يعرف والدى يتعامل معى لأفتح البيت .. وتظل الشونة دائرة ..
وفى خلال سنوات عشر جمعت ثروة وتزوجت ابنة خالتى ورزقت منها بطفلين .. وأصبحنا نعيش فى مستوى عال .. ونتمتع بما يتمتع به الناس الذين يكافحون فى الحياة .. ويشعرون بعد الكفاح .. بلذة الانتصار ..
ثم جاءت السنة التى حصل فيها التقلب المروع فى الأسعار فاهتزت البورصة ..
وكان السوق يرتفع اليوم عشرين ريالا وينخفض مثلها .. ثم أخذ فى الهبوط الصاعق .. فهبط القنطار من ثلاثة وثلاثين جنيها إلى تسعة جنيهات .. وكنت قد اشتريت ثلاثة آلاف قنطار بسعر ثلاثين جنيها للقنطار نصفها من صغار الفلاحين ولم أدفع لهم الثمن ..
وأودعت القطن فى شونة بنك مصر .. وذهبت إلى الشركة التى أتعامل معها فى مركزها الرئيسى بالإسكندرية لأقابل المدير وأسوى أمورى بما يرد لى بعض الحياة .. ولكننى قوبلت بما يقابل به العميل فى وقت النزول .. فلم أستطع أن أوفق إلى حل ينقذنى من الدمار .. وخرجت مكروبا .. وجلست على مقهى " التريانون " وأخذت أجمع وأضرب فى الأرقام .. وأحسب الخسارة " بعد القطع " بسعر اليوم .. وانتهيت من العملية .. بأنى مديون بآلاف الجنيهات .. وأنى انتهيت تماما ..
وكانت الصدمة شديدة فانتابنى الذهول .. وأصبحت لا أرى شيئا مما يجرى حولى .. وخفت أن أصاب بالشلل .. فتحركت من مكانى وسرت فى محطة الرمل على غير وجهة معينة .. وكانت الساعة قد اقتربت من التاسعة مساء .. فأخذت أمر على واجهات الحوانيت والمحلات التجارية .. ونظرى لا يستقر على شىء تنفذ صور المشاهد إلى ذهنى .. وكانت يدى تعبث بالمسدس الذى فى جيبى الأيمن وتدور به ..
ووصلت إلى قرار حاسم .. ثم رأيت أن أمتع نفسى قبل اللحظات الأخيرة من حياتى فدخلت مشربا صغيرا لأتعشى .. وطلبت زجاجة من الجعة وكان بجوار المائدة التى جلست إليها باب زجاجى يفصل بين الحانة وبين بقالة كبيرة تابعة لها ..
وكانت هناك مائدة صغيرة خالية من الجانب الآخر الملاصق لى .. ويفصلنى عنها هذا الباب الزجاجى ..
وجلست أشرب وذهنى مشغول بالأرقام .. وبالنكبة التى حلت بى وكلما فرغت من شرب زجاجة .. طلبت غيرها .. ولم تكن الحانة مزدحمة وكانت الحركة فى البقالة أشد منها فى الحانة .. وكنت ألمح الداخلين والخارجين بعين عليها غشاوة .. وأحصر تفكيرى فى نفسى .. وكنت أفكر فى زوجتى وأولادى .. والمصير الذى ينتظرهم وأحزن .. ويمزق الحزن قلبى .. كيف أضعهم بعد أن رفعتهم .. وكيف تتحمل زوجتى الصدمة ..
وعندما يكون الإنسان مكتئبا يجلس صامتا يتثاءب أو يدخن بكثرة .. ويحملق فى شىء تافه كمصباح .. أو صورة معلقة فى الحائط .. أو لافتة فى الطريق .. ويظل ينظر إليها ساعة وساعتين وهو لا يطرف ..
وهذا ما حدث لى فقد كنت أنظر من وراء الزجاج إلى شىء ثابت على الحائط .. وأخرجت سيجارة .. ووضعتها فى فمى .. ولم أجد كبريتا فدرت برأسى لأهتف بالساقى .. ولمحت وأنا جالس سيدة تنظر إلىّ بقوة من خلال الزجاج .. كانت جالسة إلى المائدة الصغيرة الملاصقة .. وبينى وبينها الباب الزجاجى .. ورأيتها تحدق فى وجهى وأنا ممسك بالسيجارة .. وكانت أجنبية وترتدى فستانا من التيل البرتقالى وتحلى جيدها بعقد وفى أذنيها قرط طويل يتدلى وفى نهايته حلقة كتلك الأقراط التى تلبسها الأسبانيات ..
وكانت تتعشى ببعض شرائح اللحم والخبز .. وأمامها كوب من البيرة وفرغت من الطعام وظلت جالسة .. وأخذت أبادلها النظرات .. وكانت حالتها تدل على أنها وحيدة فى الليل وغريبة وتبحث عمن يؤنس وحدتها .. وكانت رغبتى فى التدخين .. لا تزال قوية .. فأشعلت السيجارة من الجرسون .. وأنا متجه إلى الطريق ..
***
وفى تلك اللحظة ظهر " بهلوان " فى الشارع وأخذ ينصب حلقة على الرصيف المقابل .. فاتجهت إليه الأنظار ..
ورأيت السيدة تنظر مثلى إلى هناك حيث يلعب البهلوان ورفقاه .. ولاحظت السيدة الزجاج المغشى الذى يمنعنى من الرؤية .. فأخرجت منديلها الصغير ومسحت به الزجاج .. ومن خلال هذه الحركة البسيطة حدث شىء رهيب .. هزنى كأنما مسنى تيار .. وأوجد صلتى مرة أخرى بالحياة والناس .. فانزاحت الغشاوة عن بصرى وأصبحت أرى ما فى الطريق .. أرى الناس يروحون ويجيئون .. فى حركة دائبة .. وأرى البحر والأنوار ترقص على صفحته .. وأرى الترام والعربات الصغيرة .. والسيارات الكبيرة .. وأرى المدينة الجميلة .. وهى تتحرك آخر حركة لها فى الليل قبل أن تنام .. أصبحت أرى الحياة تتحرك أمامى وأنا الوحيد الذى يموت .. فانتفضت ولانت عضلات وجهى .. وهزنى سيال الحياة ..
وكانت هناك بهلوانة صغيرة تحاول أن تتسلق على كتف فتاة أكبر منها لتأتى بحركة " بلانس " وأخفقت الطفلة أكثر من مرة .. وفى المرة الخامسة قامت بالحركة .. وصفق لها الناس ..
ثم بدأ البهلوان .. الذى يأكل النار .. والذى يقطع السلاسل الحديدية .. ويمزقها تمزيقا بعضلاته ..
وكان الشاب بارعا يهز المشاعر .. ومع ذلك فعندما دار على الواقفين لم يعطه أحد قرشا ..
وحدث مثل هذا للبهلوانة الصغيرة ..
ولكن البهلوان ظل يلعب باصرار .. ويطالب بالنقود .. وأخيرا أعطاه بعضهم بضعة قروش ففرح بها ..
وانفض السامر ..
***
وأخذت أبادل السيدة الجالسة أمامى النظرات .. وأدركت بغريزة الأنثى أننى فى محنة .. ولكنها لم تكن تدرى ماذا تصنع .. وأخيرا دفعت حسابها وخرجت إلى الطريق .. وكانت هناك أنوار تسطع على واجهة أحد الملاهى الراقصة .. فمشت إليه .. وعندما وقفت على الباب تستعرض الصور كنت بجوارها ..
وبعد دقيقة واحدة .. دخلنا المرقص معا .. وعلمت أنها سائحة وعادت من القاهرة منذ ساعات فقط .. لترى مدينة الإسكندرية قبل الابحار منها فى بكرة الصباح ..
وقالت لى أنها سرت جدا عندما شاهدتنى فى " المشرب " وأن صوتى جذبها وودت أن تتعرف إلىّ لتقضى الساعات الأخيرة لها فى صحبة رجل .. ولكنها لم تكن تدرى ماذا تفعل .. بعد أن رأت صمتى ووجومى ..
وحدثتها باختصار .. بما جرى .. فتألمت .. ولكنها أخذت تضحك وتقول لى أن هذا يحدث لكل إنسان .. ويجب علىّ أن أصمد وأبدأ من جديد ..
***
وعندما خرجنا من المرقص كانت الساعة الثانية صباحا .. وأبدت لى رغبتها الأكيدة فى أن تنام فى المركب .. فرافقتها فى تاكسى إلى الميناء ..
وقبل أن تقترب من البحر وندخل من البوابة .. وجدت نفسى أضمها إلى صدرى .. ودارت بذراعيها وعانقتنى ..
***
وعندما عدت إلى الفندق لأنام .. لم أجد المسدس فى جيبى .. فأدركت أنها أخذته .. وهى تعانقنى .. وأنها ضحت وأعطتنى شفتيها .. لتمنعنى من حماقة ..
***
ولقد عشت .. وبدأت من جديد أشترى القطن بالرطل .. وبنصف القنطار .. وفى مدى سنوات قليلة عوضت كل الخسارة .. وعادت الشونة عامرة .. بعصب الحياة ..
ولازلت كلما رأيت زوجتى تمسح أمامى بابا من الزجاج المغشى أشعر بهزة .. كأنما مسنى تيار ..
======================== 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 275 بتاريخ 7/3/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=========================   















الرفيق

تجار شارع الأزهر يعرفون زهران صاحب شركة النقل السريع .. وأشهر شركات النقل فى العاصمة على الاطلاق ..
وفى هذا الشارع الطويل الكثير الحركة .. والذى يزخر بالناس والعربات والترام والدواب .. والذى لا تزال تشاهد فيه نموذجا فريدا لوسائل الانتقال من كل عصور التاريخ .. تتحرك عربات زهران .. مع الشعاع الأول من النور .. محملة بالبضائع والطرود إلى كافة أنحاء القطر ..
ومنذ سبعة عشر عاما وزهران يعمل فى هذا الخط .. وقد شاهد الشارع التاريخى وهو يتسع تحت سمعه وبصره .. ويضرب بجناحيه شارع الخليج .. ويأخذ منه ويطويه طيا .. حتى بدت المآذن والقباب وبروج الحى القديم للجالس فى ميدان العتبة ..
***
ومن الساعة السابعة صباحا وزهران يعمل فى هذا المكان ممسكا بالخيوط كلها فى يده .. فهو يعرف وهو جالس فى المركز الرئيسى .. أن عبد الحكيم يدخل الآن مشارف أسيوط .. وراغب ينزل الطرود أمام دكان حمدان .. فى طهطا .. وعبد الحميد قد جاوز بالعربة الصف ..
وزهران يجهل القراءة والكتابة .. وعنده سبعة من الكتبة يمسكون الدفاتر والأقلام فى الشركة .. ولكنه لم يستعن بواحد منهم فى يوم من الأيام ليعرف تحركات عرباته الخمسين فتحركاتها كلها مرسومة فى رأسه بميقات معلوم .. وندر أن يخطىء فى تقديره ..
وعلى الرغم من مشاكل الحياة ومشاكل الشيالين والسائقين .. ومشاكل المرور والرخص والمخالفات .. فقد كان الرجل يحل هذه الأمور بأعصاب من حديد ..
***
وفى صباح يوم من أيام الخريف دخل عليه شخص انتفض لرؤيته .. دخل عليه رفيق صباه عبد المجيد بعد غيبة دامت ثلاثين سنة .. وعانقه زهران فى حرارة .. ولما جلس الزائر وتمعن فيه زهران أنكره وتألم لرقة حاله ومظهره ..
فقد كان عبد المجيد شاحب الوجه .. تبرز عظام وجنتيه .. ويطل من عينيه القلق والجوع ..
وتألم زهران وعاد يتذكر .. فمنذ ثلاثين عاما كان هو وعبد المجيد أجيرين يعملان فى مكان واحد بخمسة قروش فى اليوم ويأكلان معا .. وينامان فى حجرة واحدة .. ثم افترقا وذهب كل إلى حال سبيله ..
وها هو عبد المجيد يعود إليه بعد كل هذه السنين .. مضيعا .. ممزق الثوب والروح .. وشعر زهران بهزة عنيفة .. فالشىء الذى كان يتصور أنه نسيه إلى الأبد قد عاد إلى ذهنه فجأة بكل صوره البشعة .. الغرفة التى تعاف أن تنام فيها الكلاب والحرام القذر الممزق .. والهباب .. ونسيج العنكبوت والخبز الأسود الذى يخلع الضرس .. ويلوى الفك .. وعضة الجوع فى ليالى الشتاء .. عادت هذه الأشياء كلها إلى رأسه دفعة واحدة فأظلم وجهه ..
لقد نسى كل هذه الصور الكئيبة بعد أن شق طريقه فى الحياة ووصل إلى بغيته وهو الآن يشعر بلذة العمل ولذة الانتصار على الفقر ولذة الانتصار على الحياة نفسها ..
ولكن عبد المجيد .. خرج إليه من الظلام فجأة .. كما يخرج البوم ..
وجلس أمامه صامتا وقد أخرسه الفقر ..
وسأل زهران رفيق صباه :
ـ فين دلوقت يا عبد المجيد ..؟
ـ حكون فين ..؟ مفيش ..
ـ إزاى ..؟
ـ خالى شغل ..
وبدت الكلمات كأنها تموت على شفتيه ..
وحرك زهران يده .. بسطها ثم ضمها أكثر من مرة .. وسأل وبصره مركز على خيوط الجلباب الخرق :
ـ رجعت من الشام امتى ..؟
ـ من زمان .. وتزوجت وخلفت .. عندى بنت كبيرة .. أصبحت عروسة ..
ـ غرايب .. السنين بتمر كأنها أيام ..
ـ وحوشت قرشين طيبين ..
ـ أبدا .. كله راح ..
ـ مفيش فايدة من الشر ..
ـ دا صحيح ..
ـ آمنت ..؟
ـ آمنت .. كان معى فلوس تبنى مدينة .. ذهب .. وفضة وبنكنوت .. من كل الألوان والأشكال .. ليرات .. وفرنكات .. وجنيهات .. ودولارات .. وكل هذا ذهب مع الريح ..
ـ وضبطوك ..؟
ـ أبدا ..
ـ ولا مرة ..؟
ـ ولا مرة ..
ـ فاكر .. لما اشترينا العربية الفورد الكهنة .. بعشرين جنيه .. وكنت بسوق من سمالوط للمنيا .. وأنت بجانبى .. وقانعين بالرزق الصغير الحلال ولكن الطمع أغراك فتركتنى .. لأنك كنت تود أن تغنى سريعا .. دون تعب .. فذهبت إلى الشام .. فاكر العربية ..!!
ـ فاكر ..
ـ لقد سقت هذه العربة وسقت غيرها .. عشرين ساعة متواصلة دون نوم ودون راحة .. وأنا جائع .. ونمت ليالى فى العراء .. تحت البرد والصقيع .. لأسدد ديونى .. وآتى بقوت العيال .. عشت سنين على هذا المنوال .. والناس تتصور أن السماء تمطر ذهبا ..
وكان وجه زهران يعكس جهاده الشاق فى الحياة ..
ومد عبد المجيد عنقه ونظر إليه طويلا .. ثم قال .. بعد أن وضع فنجان القهوة جانبا :
ـ لكل مجتهد نصيب .. وصيتك وصل الشام .. كل التجار هناك يعرفوك ..
ـ حتى المهربين ..!!
ـ لا ..
وضحك عبد المجيد ..
ـ دول يعرفونى أنا وخلونى زى ما أنت شايف .. مقادير ..
وأخذ الرجل نفسا طويلا من سيجارته .. وقال وعيناه ممتلئة بالدمع ..
ـ أعمل معروف شغلنى ..
وتطلع إليه زهران :
ـ تشتغل إيه .. شيال .. ولا فراش .. ياريت كنت تعرف تقرأ وتكتب ..
ـ وماله الشيال ..؟
وفتح زهران فمه .. وأطرق .. ثم قال :
ـ أنت قربت على الخمسين يا عبد المجيد .. تشيل .. إزاى ..؟
ـ أشيل .. ولا تشتغل منيرة خدامة فى بيوت الناس .. مين أحسن ..؟
ـ دى شغلانه زفت .. حتموت .. بعد أسبوع .. وأنت كبرت وضعفت ..
ـ أبدا .. أنا عارفها كويس ..
ـ حتشيل خزن .. حديد .. وطرود .. وأكياس .. وصناديق سكر .. وصابون .. حتموت بعد أسبوع ..
ـ أحسن من موت العيال من الجوع ..
ـ أما أن تغذى نفسك .. بالغذاء الجيد وتأكل رطلين من اللحم فى اليوم .. وإما أن تشرب الشاى الأسود .. وتأكل الأفيون .. لتخدير أعصابك من الآلام .. هل تعرف معنى أن تحمل الطرود على ظهرك .. طول النهار .. وأنت فى هذا السن ..
ـ أعرف .. ولكن العيال ..
ـ خذ هذا وسافر بهم إلى البلد ..
ووضع فى يده ورقة مالية ..
فطواها عبد المجيد فى جيبه وخرج ..
***
وعاد بعد شهر .. فى بكرة الصباح .. وجلس أمام زهران على نفس الكرسى .. ونظر هذا إليه لأول مرة بحنق وكراهية .. أحس بأنه لا يحبه .. شعر نحوه بما يشعر به من اشترك مع شخص فى جريمة قتل وأفلت هو ووقع الشريك فى يد العدالة .. ثم عاد إليه الشريك بعد سنين وسنين .. ليذكر بالجرم .. ولينصب له حبل المشنقة ..
شعر بشىء يمزق روحه الساكنة .. وقال وفى صوته خشونة :
ـ يعنى ما سفرتش .. يا عبد المجيد ..؟
ـ أروح فين ..؟
ـ البلد يا أخى ..
ـ ماليش عيش هناك .. نظرة الناس اتغيرت .. بعد ما رجعت من الشام .. وفكرت .. إزاى أعيش .. وأنا متهم بالتهريب .. وسط الناس الشرفاء .. لو كنت غنى مكنش حد يقدر يتكلم .. لكن دلوقت مقدرش أعيش هناك ..
ـ وإزاى تعيش هنا ..؟
ـ أشتغل فى أى شىء ..
ـ أبحث لك عن شغله بعيدا عنى .. ليس عندى شغل ..
قالها زهران بغلظة وأحس بحلقه يجف .. وعضلات وجهه تتصلب ..
وظل عبد المجيد قابعا فى استكانة وقد اصفر وجهه ..
ووقف زهران وقال بصوت أكثر حدة وخشونة من ذى قبل :
ـ خد وروح ..
ووضع فى جيبه جنيها وكأنه يصفعه على وجهه .. وخرج عبد المجيد يجر رجليه جرا ..
***
ولكنه عاد مرة أخرى إلى مكتب زهران بعد أسبوعين .. ولم تستغرق المقابلة فى هذه المرة أكثر من دقيقة خرج بعدها مصفر الوجه كأنه طرد ..
***
ومرت الأيام .. وفى ضحى يوم رأى ظهران وهو واقف على باب شركته .. ظهر رجل يعرفه جيدا ينحنى تحت حمل ثقيل .. ويمشى به مسافة فى الشارع ثم يدور ويصعد به إلى أحد المخازن ..
كان الطرد ثقيلا .. وكان عبد المجيد يتحرك بمشقة وكأنه فى كل خطوة يلفظ أنفاسه ..
وشعر زهران بكلابة حادة تنهش لحمه ..
فأغمض عينيه .. واندفع إلى داخل مكتبه .. وجلس هناك واجما مطرقا برأسه وتنبه على صوت عماله وهم يحدثون جلبة فى الخارج .. فخرج إليهم :
ـ فيه .. إيه ..؟
ـ جلال .. رجع بالعربية الورشة تانى .. الزيت مبيشتغلش .. الموتور كان حيتحرق ..
ـ يتحرق هو .. وتتحرق العربيات وأصحابها .. مخصوم منه .. يوم .. ومن الأسطى حسانين كمان .. غوروا من وشى كلكم .. غوروا ..
واندفع إلى الداخل كالقذيفة ..
وتعجب العمال فلم يشاهدوه ثائرا هكذا أبدا .. ولم يعرفوا سببب غضبه ..
***
واستمر فى الداخل يروح ويجىء فى غرفته كالنمر المحبوس فى القفص .. وخطوات رفيقه .. وعلى ظهره الطرد .. ترن كمطارق الحديد فى أذنيه ..
========================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 366 بتاريخ 9/6/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
========================  
 
   









































فندق البحر

ذهبت إلى طلخا فى نهاية الحرب العالمية الأخيرة لأضع تقريرا عن صنف من الشاى نزل السوق واستقبل بحماسة .. ثم انتكس فجأة .. ونفض الناس أيديهم منه .. وكانت الشركة تود أن تتدارك المسألة ..
وخرجت من دكان الحاج عبد القادر المتعهد الرئيسى .. فى الساعة الثامنة مساء وفى رأسى فكرة .. رأينا أن ندرسها ونجلوها فى الغد ..
وكانت الدنيا تمطر رذاذا .. والهواء البارد يسفع الوجوه ..
وطلخا مدينة صغيرة على الضفة الغربية من النهر .. وعلى الضفة الشرقية " المنصورة " ويصل بينهما كوبرى يهزه القطار .. وفى الشرق الجمال والحياة .. وفى الغرب الكآبة والركود ..
وكما تموت الجيزة فى ظل القاهرة ماتت طلخا فى ظل المنصورة .. ولهذا ندر أن يقضى فيها غريب ليلته .. الكل يهرعون إلى المنصورة ..
ولم أركب سيارة وأدور بها على الكوبرى ورأيت أن أختصر الطريق وأعبر النهر .. وقبل أن يبعد الزورق عن شاطىء طلخا هتف شخص بالملاح ليأخذه معه .. فرفض .. ولكنى رجوت الملاح أن يرجع بالزورق .. فحرك المجاديف .. ونزل الرجل معنا .. ولاحظت أن ملابسه متسخة وأنه غير حليق ..
وكانت العروس الجميلة تتلألأ ونحن نقترب منها بالزورق وسحب الشتاء تحجب سماءها اللازوردية .. والمقاهى التى على الشاطىء قد أخذت تنفض روادها ..
وكنت أشعر بالدفء فى النهر .. فلما خرجت إلى الشاطىء صافحنى الهواء البارد فضممت معطفى على صدرى وانطلقت سريعا فى الطريق المبلول .. وكان الرجل الذى ركب معى الزورق قد سار فى غير طريقى .. وقبل أن أوغل كثيرا .. تناول منى الحقيبة غلام كان يقف تحت مصباح .. وأسلمته مقودى ..
واجتزنا فندق وندسور .. نظر الغلام إلى الفندق نظرة سريعة .. ثم أسرع فى مشيته وأنا أتبعه .. وكان ذهنه فى خلال ذلك قد كون فكرة عامة عن شخصى .. واختار لى الفندق المناسب ..
ودخل السكة الجديدة .. ثم خرج منها متجها إلى جهة البحر .. ورأى من بعيد الشىء الذى يبغيه .. فاندفع إليه كالسهم ..
وكانت بناية الفندق كبيرة وعالية بالنسبة لما حولها من البيوت .. ودخلت وراءه فى دهليز طويل .. وطالعنى السكون وكانت الإضاءة قوية .. والكراسى التى فى البهو خالية .. ولكن الفندق من الداخل يعج بالحركة ..
واستقبلنى كاتب الفندق ببشاشة .. ثم تلفت إلى أحد الخدم .. وقال :
ـ أطلع مع البيه .. فى نمرة 16 ..
ـ فيها شمس .. هذا هو المهم فى نظرى .. لأنى سأمكث طول فترة الشتاء ..
ـ الشمس .. تدخل بعد الظهر .. وهى الغرفة الوحيدة الخالية الآن .. وغدا ستخلو 29 وفيها الشمس طول النهار .. وسنحجزها لك ..
وشكرت الرجل على حسن استقباله ..
وكانت هذه هى المرة الأولى التى أدخل فيها هذا الفندق .. والرجل لا يعرفنى .. ومع هذا لم يسألنى عن اسمى وصفتى ولم يدون أى شىء فى الدفتر الذى أمامه .. وشعرت بالراحة لهذه الثقة ..
***
وعندما صعدت السلم الخشبى وراء الخادم .. رأيت النظافة والنظام فى كل مكان .. ونسيت متاعب النهار .. ووجدت الغرفة فوق ما كنت أنتظر وأقدر .. كانت فسيحة وأثاثها بسيط نظيف .. وفيها كل ما يحتاجه المسافر .. وكانت نافذتها الوحيدة غربية واستطعت أن أرى جانب النهر ..
والفندق من ثلاثة أدوار ومن طراز قديم .. وطرقاته مفروشة بالمشمع والسجاد .. وفوق الأبواب والشبابيك شراعات زجاجية وخشبية تفتح وتغلق من الداخل ..
وكان فى غرفتى باب داخلى يوصل إلى الحجرة المجاورة ولكنه مغلق ومسمر بالمسامير .. ووضع وراءه الدولاب ..
وكانت الخدمة فى هذا الجناح ممتازة ووجدت فى الغرفة دورقا وكوبا من البللور .. وفرشاة للملابس ومشطا للشعر .. وفوطة نظيفة على الشماعة .. وكانت المفارش بيضاء وهى تلمع من المكواة .. والوسائد لينة .. والجرس يعمل ..
وعندما ذهبت لأغسل وجهى فى الحمام وجدت الحجرات كلها مضاءة .. وأصوات النزلاء فى الداخل .. وكان بعضهم قد جلس فى الردهة الصغيرة يشرب الشاى .. ويدخن .. ورأيت سيدات يتناولن العشاء مع أطفالهن .. وكان هذا المنظر مألوفا لدى فى تلك الأيام .. فإن كثيرا من الأسر أقامت فى الفنادق بسبب أزمة المساكن ..
وشعرت بعد أن غسلت وجهى .. وسمعت هذه الأصوات المؤنسة بأنى لست فى حاجة لأن أخرج من الفندق .. لأتمشى ..
وحمل لى الخادم حماما مشويا من الخارج ..
وبعد العشاء .. نمت نوما عميقا ..
***
وفى الصباح ذهبت إلى طلخا بالقطار .. وفى المساء عدت إلى الفندق .. وتعرفت فى هذا اليوم بجارى فى الغرفة رقم 15 .. وكان إبراهيم أفندى موظفا فى المديرية ويقيم فى الفنادق منذ سبعة وعشرين سنة .. وكان رجلا من طراز وحده .. أنيقا فى ملبسه وفى حديثه .. يقوم من السجادة .. لينام على السرير .. ويتوضأ أربع مرات فى كل صلاة ليستوثق من صحة الوضوء ..
ولما كان الفندق لا يقدم الطعام للنزلاء .. فإنه كان يطهى لنفسه .. ويأكل فى مواعيد منتظمة .. وكان يقضى معظم أوقات فراغه فى الفندق .. ويقصر اختلاطه على من فيه .. ولا يستقبل زائرا من الخارج ..
وكان إذا ذهب إلى الحمام علق لافتة على الباب تشير إلى ذلك .. وإذا كان نائما فى فترة الظهيرة .. وضع اللافتة على الباب من الخارج " نائم " حتى لا يزعجه أحد ..
وكان من الطبيعى أن ألتقى به وأنا راجع وأتحدث معه .. لأنه يقيم بين البهو وغرفته بصفة دائمة .. ويرى أول داخل .. ولما طلبت فنجانا من القهوة .. ابتسم .. وقال :
ـ نفع اللوكاندة بفنجان .. وبعدين اتفضل فنجانا من عندى ..
وقبلت بسرور .. وكانت غرفته عبارة عن شقة كاملة .. فقد وضع فيها كل الأشياء .. كل ما يحتاجه المرء فى المنزل ولما وجدنى أنظر فى دهشة إلى محتويات الغرفة .. قال بعد أن صنع القهوة بيده وعدنا نجلس فى الردهة :
ـ لقد علمتنى الحياة الطويلة فى الفنادق .. أن أشتغل بنفسى .. وأشترى كل لوازمى .. ولقد سحت فى بلاد القطر من أسوان إلى الإسكندرية .. ونزلت فى كل الفنادق .. ولكن ندر أن تجد الشخص الذى يفهمك .. ويعرف رغباتك بدقة .. والإنسان طبيب نفسه كما يقولون .. فلماذا آكل السمن والبصل إذا كانت معدتى تستريح على الزيت مثلا .. لماذا ..؟
ـ عنك حق ..
ـ وكنت أتعب فى أول الأمر .. ثم أصبح التعب لذة .. وأصبحت الهواية .. صنعة متقنة .. ولقد تخلصت بهذا من شر العقاقير كلها .. فما وضعت فى بطنى من هذه السموم جرعة طول حياتى .. والمعدة بيت الداء .. إن كنت لا تعرف ..
وكان الرجل المتجاوز الخمسين قوى الجسم حقا وموفور الصحة .. وفى عينيه الشباب .. الذى يجرى فى عروقه ..
وبدا لى أن أسأله لماذا لم يتزوج .. ويعيش أعزب هكذا .. ثم عدلت عن السؤال .. لأنى خفت أن يوجه لى مثله ..
وارتشفت قهوته فى بطء .. وشعر بسعادة الطفل عندما وجدنى أتذوقها .. وأثنى عليها .. ولما وضعت الفنجان على المائدة الصغيرة .. مرت علينا سيدة من نزلاء الفندق .. فحيته بهزة من رأسها .. وقال لها :
ـ تفضلى .. يا مدام .. شوفى لنا الفنجان ..
وضحكت .. وظهر الخجل على وجهها ..
ـ مكسوفة من مين فينا .. البيه .. ساكن جنبك على طول ..
ـ أشوف فنجانك .. ولا فنجانه ..؟
ـ فنجانه هو الأول ..
ـ إذن حضرتك .. تقوم من هنا .. علشان دى أسرار ..
فقام وجلس بعيدا.. وهو يبتسم ..
وسألتنى الأرملة التى تجاوزت سن الشباب .. ولكن لا يزال فى وجهها بعض جمال الصبا :
ـ اسم حضرتك ..؟
ـ سعيد ..
وحركت شفتيها الرقيقتين .. وعيناها السوداوان كانتا مركزتين على وجهى ..
وكانت تقرأ فنجانى وكنت أقرأ الأسرار فى عينيها ..
وقالت لى كلاما كله أمل وبهجة .. ولا بأس من سواد خفيف يمر كالسحاب فى سماء حياتى ثم يذهب .. ويعود الصفاء ..
وشكرتها .. ومرت خفيفة إلى غرفتها .. وهى تقول لإبراهيم :
ـ أنت خليك لبكرة ..
وعلمت أنها تعمل عند حلوانى أجنبى فى السكة الجديدة .. وأنها قريبة لصاحب هذا الفندق .. وأنها تجيد قراءة الفنجان .. وكنت أعرف أنها امرأة حادة الذكاء وشديدة الفراسة .. ومن السهل أن تقرأ خواطر المرء وهى تنظر إلى عينيه ..
ولم أكن أدرى أتبيع فى محل الحلوى للزبائن أم تكتفى بصنع الفطائر .. فإنها كانت تأتى إلى الفندق متعبة .. وعلى وجهها الارهاق العصبى .. ولا شك أنها كانت تتعرض إلى مغازلات ومضايقات الرجال فى الخارج .. فإنها كانت بمجرد أن تضع أقدامها فى غرفتها تغلق عليها الباب وتظل فيها إلى الصباح التالى .. ولا تخرج منها إلا ذاهبة إلى المطبخ أو حاملة لنفسها كوبا من اللبن ..
وكان يخفف عليها وحدتها بين الرجال أن الفندق كانت تنزل فيه بين الحين والحين أسرة وأطفالها وفيها الفتيات والأطفال ويجعلها هذا تحس بالجو العائلى ..
وكان فى الجناح الذى تقيم فيه .. أسرة مكونة من خمسة أشخاص .. وكانوا يقيمون فى غرفتين متجاورتين .. وكانت المدام تضيع كثيرا من وقت فراغها فى الحديث مع الزوجة ..
ثم جاءت عروس .. وسكنت بجانبنا وكانت لا تختلط بأحد .. وأشفقنا عليها فى وحدتها لأن زوجها كان يقضى كثيرا من الليالى فى الخارج ..
وعلمت من إبراهيم أن زوج هذه العروس من رجال الأعمال وهو رجل كثير الأسفار وطاف بأوربا كلها .. وحقائبه تحمل بطاقات الفنادق التى مر بها .. وأنه جاء إلى المنصورة ليفتح فرعا جديدا لتوكيل الجرارات والمحاريث .. مثل فرعه فى القاهرة ..
وشاهدت العروس مرة واحدة .. وهى داخلة إلى غرفتها .. وكانت جميلة رقيقة المشاعر .. وتضرج وجهها بالخجل عندما رأتنى .. وأغلقت عليها الباب بسرعة لأنها لم تألف عيشة الفنادق ..
***
وعلى الرغم من أننى أنجزت مهمتى .. فى منطقة المحلة وطلخا .. وكان علىّ أن أعود إلى القاهرة فإننى رأيت أن أواصل الجولة فى منطقة المنصورة ..
ومدينة المنصورة .. جميلة فى الشتاء .. والصيف .. ففى الشتاء يمكنك أن تتنزه فى منطقة شجرة الدر .. وفى الصيف تذهب إلى البحر الصغير .. وتحس بالجمال والمتعة .. ولكننى فى الواقع لم أكن أبرح الفندق إلا لأقوم بجولتى التفتيشية وأعود إلى المنصورة فى نفس اليوم ..
وحتى هذا العمل لم يكن يخلو من متعة .. فإنك تقابل أناسا يختلفون فى الأذواق والمشارب .. وتسمع لكل فريق رأيا يختلف عن الآخر اختلافا كليا .. ووسط هذا التيه تمضى لتعرف الحقيقة .. ولم أشعر بعد عشرة أيام غبتها عن القاهرة بالوحشة .. فإننى كنت أجد فى الفندق المتعة البريئة التى يتطلبها الشباب .. وكانت هناك وجوه ترحل .. ويأتى غيرها .. دون أن يغير ذلك شيئا من بهجة الفندق ..
وزادت صلتى بالمدام الأرملة .. فأصبحت تجلس معى فى الردهة .. دون حرج .. وتأخذ ما تحتاجه من حجرتى .. وتشعر بالسكينة وهى تحدثنى على انفراد ..
***
وذات صباح وكنت قد نهضت من فراشى مبكرا لأذهب إلى ميت غمر .. رأيت وأنا أغسل وجهى فى الحمام .. شخصا تذكرت أننى أعرف وجهه لأنى قابلته من قبل .. ولكن لم أستطع فى خلال الفترة التى بقى فيها فى الطرقة أن أحدد مكان المقابلة .. فلما تبعته ببصرى ورأيته يدخل غرفة العروس اشتغل ذهنى بسرعة واستطعت أن أحدد مكان المقابلة .. فقد كان هو الرجل الذى ركب معى الزورق فى أول يوم عبرت فيه النيل إلى المنصورة ..
ولكنه كان اليوم حليق الذقن .. ولما ارتدى ملابسه وخرج إلى الطريق بدا وجيها وفى أحسن هندام ..
وأدركت أنه زوج العروس .. وأنه الرجل الكثير الأسفار والأعمال الذى يتحدثون عنه .. ولم أربط بين الحال التى وجدته عليها فى الزورق وحاله الآن .. ولكننى وجدت أخيرا أن الرجل الكثير المشاغل يبدو فى كل مظهر ..
ولم أستغرب حب العروس له .. وتجنبها الرقاد حتى يأتى من الخارج .. فإن الشاب كان وسيما قويا ..
وكانت غرفتها ملاصقة لغرفة إبراهيم .. وعلمت أن الشاب اسمه بدران واسم العروسة نجية .. وأنهما متزوجان حديثا ولحبه الشديد لها يأخذها معه إلى كل مكان يذهب إليه ..
وكانت نجية فى الواقع جميلة جمالا يدير الرؤوس .. وكنا نشم عطرها من مسافة عشرة أمتار .. ونحبها جميعا حبا خالصا من كل رغبة وكل دنس ..
ووجدنا السعادة الحقة فى أن نجتمع نحن سكان هذا الجناح من الفندق .. قبل النوم ونجلس فى البهو الخارجى أمام الحجرات نشرب الشاى والقهوة وندخن ونتحدث فى مختلف الشئون ..
وكانت صلتى بالأرملة قارئة الفنجان قد اشتدت ورفعنا كل كلفة فى الحديث ..
وقالت لى مرة وهى تنظر بعينين مسبلتين إلى الفنجان :
ـ أرى سعادة قريبة .. ووجه إنسان جديد فى حياتك ..
فقلت وأنا أديم التحديق فى وجهها :
ـ لابد أن يكون هذا الإنسان .. قريبا جدا .. وجميل جدا .. أسود العينين .. وأراه الآن ..
فسألت برجفة :
ـ فين ..؟
ـ أمامى ..
ونكست رأسها وأسبلت عينيها ..
ولما مررت على غرفتها بعد قليل وجدتها ساهرة وبابها نصف مفتوح وكانت جالسة أمام المرآة تتزين ..
***
وأيقظنى إبراهيم أفندى فى ساعة متأخرة من الليل على جلبة فى الطريق .. وأشار إلى النافذة ولما نظرت منها وجدت بدران وحوله بعض العساكر .. وفى يديه الحديد .. وكانوا فى تلك اللحظة يركبونه البوكس ..
وقال لى أنهم قبضوا عليه وهو داخل إلى الفندق .. وكان كاتب الفندق صاحيا .. ورآهم وهم يطوقونه ومع أنه لم يفهم المسألة ولم يعرف السبب .. ولكنه أدرك فى الحال أن البوليس سيفتش غرفة بدران .. وأن هناك فتاة نائمة فيها الآن وربما كانت تحلم ويجب أن تبتعد عن كل مكروه ..
فأيقظوها وأدخلوها مع ملابسها وحاجاتها فى غرفة ابراهيم لأنه معروف لرجال السلطات فى المديرية ولا يعقل أن تفتش غرفته ..
وفتش البوليس غرفة بدران .. ثم أخذوه وأخذوا حاجاته وذهبوا ..
ونزلنا إلى الشارع نستطلع الخبر .. فعلمنا أن الشاب ليس اسمه بدران كما ذكر للفتاة المسكينة .. وأنه مختلس .. أختلس آلاف الجنيهات وهرب بها .. ومنذ أربع سنوات والسلطات تبحث عنه وتطارده ..
***
ولما بكت نجية على صدر المدام اعترفت لها بأنها لم تتزوج الشاب .. وأنها التقت به عرضا فى بنى سويف .. منذ ثلاثة شهور .. وجاء بها إلى هنا ليتزوج .. ولم تكن تعرف عنه أكثر من أنه رجل أعمال .. وأنها كانت تشتغل ممرضة وسعيدة بعملها هناك .. ولما خرج بها من المدينة أغواها بماله وشبابه .. فجاءت معه إلى هنا وهى تستحق هذا المصير ..
وكانت تبكى بحرقة .. ورأينا أن نبقى الفتاة فى الفندق حتى نجد حلا للمسألة ..
وكان كاتب الفندق كريم الطبع فأعادها بملابسها إلى غرفتها ورفض أن يأخذ منها أجرا ..
***
وفى مساء يوم وكنت أنظر إلى السماء من غرفة إبراهيم .. وكان يعد لنا القهوة .. فقلت له :
ـ ماذا .. لو فتحنا هذا الباب الموصد بينك وبين الفتاة ..
فنظر إلىّ وسأل :
ـ ماذا تقول ..؟
ـ فى هذه الغرفة .. تنام نجية وبينكما .. باب صغير .. فلماذا لا نفتحه ..؟
ـ وما شأنى فى هذا ..؟
ـ جار وإنسان والفتاة استجارت بك عندما فتش البوليس الفندق ..
وتركته يفكر .. وفى اليوم التالى ضمت الأرملة صوتها إلى صوتى .. ولكنه رفض بشدة وانقطع عن مجلسنا .. وكان يكثر من الصلاة والعبادة ..
***
وأخيرا رأينا أن نبحث عن عمل للفتاة وقبل طبيب أن يلحقها بعمل فى مستشفى الجمعية الخيرية بالقاهرة على أن تسافر فى صباح السبت ..
وجمعنا لها بعض النقود وأخذت الفتاة تعد نفسها للسفر ..
وجمعت ملابسها وأغلقت حقيبتها وأمسكتها بيدها وخرجت علينا تودعنا .. ومشينا معها إلى بسطة السلم الخارجية وكانت تحبس دموعها ..
وقبل أن تنزل الدرج .. خرج إبراهيم من غرفته وكان حابسا نفسه فيها .. وتناول الحقيبة من يد الفتاة .. ودخل بها إلى غرفته .. وكان بادى التأثر ..
وتم زواجهما فى نفس اليوم ببساطة ..
***
ولما عدت فى المساء من الخارج وجدت على بابه اليافطة المألوفة " نائم " ..
ووجدت الأرملة ساهرة تنتظرنى لتقرأ لى الفنجان ..
======================== 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 452 بتاريخ 5/9/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=========================

   








مجموعة الطوابع

هويت جمع طوابع البريد من الصغر .. وكنت أتبادل الرسائل مع شبان من مختلف أنحاء العالم .. فتكون لى على مدى السنين مجموعة طيبة لم أكن أدرى ما أنا فاعل بها .. ووجدت نفسى ذات يوم أفكر فى بيعها .. ولم أكن أعرف كيف أنفذ غرضى وأنا إنسان شديد الحياء .. قليل الخبرة فى مثل هذه الشئون .. فكيف أحمل حقيبة القومسيونجى وأدور بها على الحوانيت ..
تلك هى المشكلة ..
وظلت الفكرة تروح وتجىء فى رأسى كرقاص الساعة ..
وكان يغيظنى حيائى وترددى فى تنفيذ أمر بسيط كهذا .. واشتد الصراع حتى كرهت الطوابع وكرهت نفسى ..
وذات صباح وضعتها فى مظروف وخرجت بها إلى الطريق .. مشيت فى شارع قصر النيل وشارع شريف وشارع عدلى وشارع عماد الدين .. وأنا أقرأ لافتات الحوانيت .. ولكنى لم أدخل أى محل .. أكتفيت بالمشاهدة من الخارج .. وأخيرا تشجعت ودخلت محلا صغيرا ..
ولكن بدلا من بيع الطوابع .. أشتريت قلما من الأبنوس وبطاقات بريد .. وخرجت وأنا ألعن ترددى وضعفى ..
وأخيرا اندفعت إلى داخل حانوت يبيع الصور والطوابع بشارع عبد الخالق ثروت وقدمت لصاحبه المجموعة .. وأنا كأننى أبيع الأفيون .. فتناول الرجل المظروف وهو يحدق فى وجهى ووضع يده فيه .. وأخرج قبضة نظر فيها ثم أعادها ورد المظروف صامتا وهو يقلب شفتيه ويهز رأسه بالنفى ..
وقرأت فى عينيه الاستخفاف والسخرية بى لأنى جعلت لهذه الأشياء التافهة قيمة .. وكانت النظرة نظرة خبير متمكن حتى تيقنت أن الطوابع كلها لا تساوى نصف مليم ..
ودخلت محلا آخر فى نفس الشارع وراعنى أن صاحبه أبدى نفس الحركة .. وخرجت من المحل ووجهى يتقد من الخجل .. ولكنى أصبحت أكثر ثباتا وإصرارا على أن أكمل الجولة ..
ووجدت لذة فى العمل الذى كنت أحتقره وأخجل منه ومعرفة بطباع البشر ..
وأردت أن أكون أكثر دراية وخبرة .. فدخلت كل الحوانيت فى حى التجارة الرئيسى .. وأصبحت أكثر جرأة وسألت آخر رجل فى الجولة :
ـ لماذا لا تشترى هذه الطوابع .. وهذه هى مهنتك ..؟
ـ لأن عندى منها الكثير وليس فيها شىء يستهوى الغواة ..
ـ إطلاقا ..
ـ إطلاقا ..
وشعرت بالأسى على تعب السنين .. وضياع الوقت فى عمل تافه .. وقررت أن أتخلص نهائيا من هذه الهواية الفارغة وأن ألقى بهذه الطوابع فى النيل وأنا أعبر كوبرى عباس إلى بيتى ..
***
وجذب نظرى وأنا أعبر شارع عدلى طابع كبير مصور على الرخام باتقان وبراعة .. فوقفت تحته وقرأت اللافتة التى تشير إلى صاحبه .. وكان فى الدور الرابع .. وطلعت السلم وكان معتما فى وضح النهار والبيت من البيوت القديمة .. كأنه أول بيت أقيم فى هذا الحى ..
وكان الدرابزين ينخر فيه السوس ..
ووجدت على باب الشقة نفس الطابع الذى شاهدته تحت .. وكان الباب مواربا .. فأزحته ودخلت وطالعنى دهليز مظلم أشد ظلاما من السلم .. ولم أر أحدا وشعرت بهزة وبالخوف يقبض قلبى .. وبدا لى أن أعود .. ولكننى بصرت وأنا أحدق بقوة نورا خفيفا فى نهاية الدهليز ينبعث من باب جانبى .. فتقدمت .. حتى بلغته .. ولما دخلت الحجرة وجدت رجلا يجلس إلى مكتب .. وأمامه أكداس من الرسائل والأوراق .. وأخذنى بنظرة من يستقبل العميل الذى لا فائدة منه ..
 ورأيت وجهه .. كريها وسحنته منفرة وعينين كعينى الثعلب ..
ومددت له إليه يدى بالمظروف دون كلمة ..
وأخرج الطوابع بيد ضخمة .. ثم أعادها إلى المظروف بحركة واحدة وسريعة وهز رأسه ..
وسألته بغيظ :
ـ كلها لا تعجبك ..؟
ـ عندى مثلها كثير ..
ووضعت يدى فى المظروف بعصبية .. وأخرجت الطوابع ..
ـ عندك من هذه ..؟
وسقط فى أثناء ذلك طابع على الأرض ولم أتنبه إليه وتنبه الرجل .. فانحنى والتقطه .. ووضعه على المكتب أمامى ..
وضغط على جرس جانبى ونظره مثبت على الطابع الذى التقطه ..
ودخلت علينا فتاة لم أسمع لأقدامها صوتا ..
وقال لها :
ـ مارتا .. أرى الأستاذ .. مجموعة الطوابع التى عندنا ..
تفضل معها ..
ومشيت وراءها فى دهليز آخر .. ثم دخلنا غرفة رحبة قليلة الضوء ووجدتها ممتلئة بالصور والتماثيل والأشياء الصغيرة ..
وأخذت مارتا .. تخرج مجموعات الطوابع وتضعها على الطاولة ..
وتركتها فى عملها وأخذت أنظر إلى جدران الغرفة وسقفها .. وسألتها :
ـ لماذا تغلقون النوافذ كلها فى النهار .. ؟
ـ الضوء والشمس يفسدان الصور .. سأضىء لك مصباحا آخر لترى الطوابع ..
ورأيت مارتا فى الضوء الجديد .. وكانت مرتكزة على الطاولة وترتدى صديرا من الصوف الفاتح .. فوق جونلة رمادية .. ووجهها أبيض جميل وتقاطيعها حلوة وأسنانها لؤلؤية ..
ورأيت الطوابع التى قدمتها لى نادرة حقا .. وتدل على خبرة الرجل الطويلة فى هذه المهنة ..
ـ إنى جئت هنا لأبيع .. وليس لأشترى ..
ـ تستطيع أن تستبدل .. والخواجه سيتساهل معك فى هذه الحالة ..
ـ قررت أن أترك هذه الهواية إلى الأبد .. أنها مضيعة للوقت ..
أرينى الصور من فضلك ..
وقدمت لى مجموعة مختارة من متاحف العالم ملونة وفى حجم الكارت بوستال ..
فاخترت بعضها وعدت مع الفتاة إلى الرجل فوجدته فى المكتب ..
ولما رآنى قد اخترت الصور من رسوم مشاهير الفنانين وقدمت له ورقة كبيرة بعشرة جنيهات .. قال قبل أن يتناول منى الورقة ..
ـ عندى صورة كبيرة رائعة لفينوس وهى ذاهبة إلى الحمام من رسم بول ودرى .. هل تحب أن تراها ..؟
ـ لا مانع ..
ـ مارتا هاتيها .. للأستاذ ..
وذهبت الفتاة وبقيت وحيدا مع هذا الرجل فى هذه الغرفة المعتمة ..
وشعرت برجفة .. وسمعت الباب الخارجى يغلق بالمفتاح .. وكانت الشقة كلها مظلمة مخيفة ووجه الرجل أكثر إثارة للفزع .. ولقد كنت مع الفتاة أشعر بالأمان .. أما هذا الكئيب الجامد الصامت .. فقد انتفضت من سحنته .. ولم أسمع منذ دخلت البيت حركة ولا صوتا وخيل لى أن العمارة كلها هجرها سكانها لشبح أو مارد يفزعهم ..
وطال غياب الفتاة وأحسست بوطأة السكون وأفزعنى صمت الرجل وخيل إلىّ أنه سيتناول سكينا ويذبحنى .. فجلست أرتعش ..
وشعرت بحلقى يجف وأظلمت عيناى ولم أعد أرى الرجل ..
وهنا هدر صوت من بعيد .. ولكنه كان كهزيم الرعد .. وفتح الرجل النافذة ونظر إلى تحت ثم عاد وأغلقها كما كانت .. وعاد السكون من جديد ..
وسألته :
ـ ماذا هناك ..؟
ـ مظاهرة فى الشارع الثانى وذهبت ..
وتذكرت العناوين المثيرة فى جرائد الصباح عن ضرب الإنجليز لبناء محافظة الإسماعيلية بالمدافع الثقيلة .. وقتل جنود بلوكات النظام الذين كانوا يدافعون عن وطنهم .. وأدركت أن هذا هو رد الشعب على هذا العدوان ..
وكان الصوت الهادر فى الخارج قد طمأننى وثبت أعصابى فلما انقطع .. وعاد السكون .. عاد الفزع ..
ولكن الفتاة أنقذتنى .. ودخلت فى هذه اللحظة تحمل الصورة ووضعتها أمامى وكانت رائعة حقا ..
ـ بكم هذه ...
ـ بخمسة جنيهات ..
ـ هذا كثير ..
ـ إنها منقولة من متحف بوردو .. ويمكنك أن تتأكد من ذلك ..
ـ متأكد .. ويكفى ثلاثة جنيهات ..
ـ إذا بعتها بثلاثة جنيهات أخسر نصف جنيه .. وهذا لا يرضيك ..
ـ خذ الطوابع أيضا ..
وهز الرجل كتفيه :
ـ إنها لا تساوى شيئا ..
ونظرت إلى فينوس الحية .. فقالت :
ـ السيد يأتى هنا لأول مرة يا خواجه أندريا .. ونريد أن يكون زبون المحل فاكرمه ..
نظر إلىّ الرجل .. وإلى الفتاة .. وإلى فينوس التى باعها وإلى الطوابع التى أمامه .. ثم قال :
ـ طيب لفى له الصور ..
وتناول الطابع الذى كان لا يزال موضوعا على حافة المكتب ووضعه فى المظروف مع المجموعة ..
وأعطيته المبلغ ..
وأخذت الفتاة تغلف الصور ..
***
وفى هذه الآونة سمعنا هزيم الرعد مرة أخرى .. ولكنه لم يكن بعيدا هذه المرة .. كان تحت أقدامنا ..
وجرينا وفتحنا النوافذ .. ورأينا الجموع تسد عين الشمس .. والنار تأكل المنزل المقابل .. وبدأت تشتعل فى العمارة التى نحن فيها ..
وجرى الرجل كالمجنون إلى الدهليز ثم عاد وكرر هذه العملية ثلاث مرات .. وغاب عن نظرى ..
وصرخت مارتا وجرت ..
وجريت إلى الدهليز .. ولم أجد شيئا مفتوحا أخرج منه فى هذا الظلام وعدت مفزوعا فارتطمت بها .. وقلت لها :
ـ أين الباب ..؟
ـ فلم ترد والتصقت بى .. وأخذت ترتجف وتبكى ..
ـ أين الباب .. النار ستأكلنا ..
وهززتها بعنف ..
فقالت :
ـ انتظر لحظة .. ثم خذنى معك ..
ودخلت مارتا غرفة الرجل وعادت بسرعة وشدتنى إلى الخارج ..
وفتحت الباب .. ولما خرجنا إلى بسطة السلم وجدنا أن النار قد سدت علينا الطريق فجذبتها إلى الداخل ..
فقالت :
ـ لا .. تعال بسرعة ..
وصعدنا إلى السطح وقالت أنه يمكن أن تقفز من الناحية القبلية إلى المنزل المجاور .. فلما وصلنا إلى المكان الذى عينته وجدتها مخاطرة بالنسبة لها .. ووجدت بعضا من السكان قد وضعوا قطعة من الخشب كالسقالة بين البيتين .. ورأيت هذا آمن ..
وعبرتها إلى السطح الآخر .. وانتظرت مارتا .. ولكنها كانت مفزوعة .. فأسقطت الخشبة قبل أن تعبر ..
وصرخت الفتاة صرخة تمزق القلب .. لما رأت نفسها وحيدة على سطح البيت الذى تأكله النيران ..
ونظرت إلى النار فى الأرض .. والدخان فى السماء .. والناس يفرون فى الشارع مذعورين والصراخ والفزع فى كل مكان .. وحز فى نفسى أن أترك فتاة وحيدة للنار ..
وعدت إليها وثبا .. وكانت الحركة مخاطرة مجنون ..
ولما أصبحت بجوارها مرة أخرى ونظرت حولى لم أجد غير النار والدخان .. وسمعت فرقعة وصوت الخشب وهو يتآكل ورائحة الزيت المحترق .. ولكن انقطع الصراخ ..
وكانت مارتا ملتصقة بى وقد تكورت ودفنت رأسها فى حجرها كأنها لا تريد أن تشاهد الصاعقة وهى تنقض علينا ..
ولم أكن أفكر إلا فى القدر الذى رسم خط حياتى فى ذلك اليوم المشئوم وجعلنى فى قلب النار ..
وأحسست بالفزع الحقيقى وبالموت كشىء واقع حتما بعد لحظات .. وبالسواد يلف سماء المدينة الجميلة ويحجب عنها نور الشمس وكل الأضواء .. وكانت بجانبى أنثى يشتهيها كل رجل فى هذه الدنيا وجسمها أنصع من البللور .. وأرق من الديباج .. ولكن لما لمسته بأصابعى لأتأكد من أنها لا تزال حية .. رأيتها باردة وقد تجمد فى شرايينها الدم وتقلص ..
وأحسست بالخشونة تحت أصابعى وبشبح الموت الرهيب يقترب منا ..
فرفعت وجهها وأزحت شعرها إلى الخلف .. وفتحت عينيها ونظرت إلىّ فى سكون ورقة ..
وأحسسنا بهزة عنيفة وسقطنا معا ..
***
ولما فتحت عينى كان الركام والتراب يحيطان بنا .. ولم أكن أعرف إلى أين سقطنا .. واتضح لى أننا سقطنا من ارتفاع مترين فقط ..
وسد التراب والركام المنافذ فلم نسقط أبعد من ذلك ..
وكان الليل قد خيم على المدينة والدخان الأسود يحجب عنا كل الرؤى ..
ونظرت إلى مارتا .. فوجدتها نائمة .. وكانت الدماء تسيل على وجهها .. ومسحته بمنديلى .. ولم يكن هناك ما هو أجمل منها فى هذه الساعة وهى معفرة .. دامية .. وشعرها مخلوط بالهباب والغبار والعرق ..
وخيل إلينا .. أننا انقطعنا عن الوجود .. وانفصلنا عن العالم كله فى هذا الكهف وسط الركام والتراب ..
***
وفى صباح اليوم التالى ..
إبتدأنا نحس بالحياة حولنا وبحركة الناس والسيارات فى الشارع .. لم نكن نقدر أننا نجونا .. ولكننا أحسسنا أن الموت قد تأخر عنا ساعات ..
وأردنا أن نعيشها .. فقلت لها :
ـ لقد احترقت المدينة الجميلة .. وسنموت فى هذا المكان كما تموت الكلاب ..
ـ كان يمكن أن تنجو .. وأنا السبب ..
ـ لا تفكرى فى هذا .. لقد عدت إليك .. لأنى رأيت البيت الآخر ينهار .. وتأكله النيران .. ككل البيوت المجاورة .. وسترينه أمامك أكواما من التراب .. وأنا حزين لأنى أموت قبل أن أقاتل الإنجليز ..
ـ سنعيش ..؟
ـ من طبع الإنسان ألا يفقد الأمل فى الحياة أبدا .. حتى وهو يرى حبل المشنقة ..
ونظرت إلى قلب صغير معلق فى جيدها ومنقوش عليه حرف الميم .. وعجبت لبقاء هذا الشىء رغم كل ما حدث من تمزيق ثوبها وضياع حذائها وبعض حليها ..
وقلت لها :
ـ إن حرف الميم يمكن أن يرمز إلى إسمى أيضا ..
ـ إسمك محمد ..
ـ ممدوح ..
ـ إذن سأعطيك قلبى .. ولكن ليس الآن ..
وضحكت وأمسكت بيدها .. وسمعنا حركة شديدة فى الشارع ..
ولما نظرت من فجوة صغيرة رأيت سلم المطافىء الطويل يمتد إلى ناحيتنا .. فحدثت مارتا بما رأيت فطوقتنى بذراعيها فرحة ..
***
وقالت وهى تخرج من صدرها شيئا ملفوفا علقته فى سلسلة :
ـ والآن خذ ..
ورأيتها تعطينى الطابع الذى سقط منى والتقطه الرجل ووضعه على المكتب دون عناية ..
ـ ما هذا ..؟
ـ الطابع الذى سقط عرضا ولم تعرف قيمته .. إنه يساوى ألف جنيه ..
ـ ألف جنيه ..
ـ وأكثر من هذا .. إنه ينقص مجموعة لأحد مشاهير الهواة .. ولا يوجد مثله فى العالم ..
وفتحت فمى دهشا .. وسألت :
ـ وهل كان أندريه .. فى هذه الشقة الرهيبة .. سيتركنى أخرج به حيا ..؟
فابتسمت .. وقالت :
ـ لا أدرى ..
***
ورأيت حافة السلم فى هذه اللحظة ترتكز على الحائط .. وكانت النار كلها قد تحولت إلى رماد .. وشعاع الشمس الذهبى يطارد الدخان ..
======================== 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 314 بتاريخ 29/7/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
========================= 
   

















الغـــول

     كان عبد المحسن مهران وهو فلاح عجوز من قرية الرحمانية بالصعيد يمتلك قطعة أرض صغيرة على شط النيل لاتزيد مساحتها على النصف فدان ..
      وكان من سوء حظه أنها ملاصقة لأرض الشيخ ماهر ومتداخلة فيها .. فما زال هذا يجنبه حتى وضعه فى أضعف تربة ..
     فلما زحف النيل على الأرض يأكل منها .. أدعى أن أرض الفلاح الفقير هى المأكولة .. وأرضه لم يمسها سوء .. فصرخ المسكين ولجأ إلى السلطات لترد له قطعته قبل ضم المحصول ..
     وعندما تحركت الشكوى من المركز كان النيل يملأ الضفتين والتيار شديدا ..
     وركب معاون الادارة ومعه شيخ البلد والدلال والخفير المعدية لمعاينة الأرض .. وكانت على العدوة الأخرى من النيل فجرفهم التيار بعيدا حتى أشرفوا على الغرق وأخيرا استقرت المعدية تحت قرية من القرى .. فى ساعة العصر .. بعد عراك مع الماء استمر سبع ساعات .. وطلب شيخ البلد ركوبتين من القرية التى نزلوا تحتها ليصلوا إلى العزبة ..
     وركب المعاون وشيخ البلد .. وسار الدلال والخفير خلفهما بين المزارع وكانت زراعة الأذرة والقطن على الجانبين .. والشمس تشوى الوجوه .. والأرض الحامية تتنفس فى وجوههم ..
     وأطلق شيخ البلد الشمسية واكتفى المعاون بأن وضع منديلا تحت الطربوش ..
    وكانا قد أبعدا بالدابتين عن النهر .. وسارا فى طريق ضيق بين الحقول .. وكان الطريق موحلا .. وأرجل الدابتين تغوص فى الوحل .. وكان المعاون يذهب لأول مرة إلى هذه المنطقة .. وساءه رداءة المواصلات وسوء الطرق .. وشدة الحرارة رغم الماء المحيط ونزول الشمس عن السمت .. وظهر أثر ذلك على وجهه .. وكان يكره ركوب الحمير .. وزاده هذا غما ..
     وكانت زراعة الأذرة عالية .. والكيزان مستوية .. وقد مالت إلى الأرض ..
     وكان الحشيش المتطفل .. يغطى التربة .. والقطن قد تفتح نواره .. وظهرت لوزه تنشق عن مثل الحرير الأبيض . ولكن الحرارة وناموس الذرة .. والحشرات الطائرة .. كانت تشوه كل هذا الجمال فى عين المعاون .. وكان شيخ البلد قد اعتاد على مثل هذا وأكثر منه ..
     وكان الفلاحون فى الحقول .. يرفعون رؤوسهم عن الأرض لحظات ويحدقون فى الراكبين وبعد أن يشبعوا فضولهم يعودون إلى عملهم ..
***   
     وانحدرت الدابتان .. فجأة فى طريق نازل .. ولفحهما هواء مرطوب .. وكان النز والطحلب والحشائش الطفيلية تغطى الأرض .. وأسراب من الطيور تحط .. ثم تحلق فى غير نظام .. ثم صعدا على جسر صغير وتكشفت المزارع أمامهما .. فقد أخذ الفلاحون يحصـدون الأذرة .. ويكومون " القناديل " فى جانب من الحقل ..
     وبدت جذوع العيدان .. بيضاء تعلوها السمرة .. وكان الجاموس مربوطا والجمال باركة تجتر .. وبعضها يتحرك حذاء الساحل محملا " بأطنان " البوص وكانت الأبقار تدور على النوارج .
     وسمع المعاون .. صياح الفلاحين .. وزعاقهم .. فى كل مرحلة كان يقطعها بالدابة ..
     وكانت أشجار السنط .. والنبق كثيرة فى الأرض العالية كأنها محطات للعابرين .. أما النخيل فكان قليلا .. فى الأرض المزروعـة وكان يبدو من بعيد وهو يخيم على القرى والعزب .
     وكان الراكبان يمشيان على مهل .. ويراعيان الدلال والخفير وراءهما .. وأن الطريق ردىء .. وربما انقلبا فى اللجة أو انزلقا فى الوحل .. ولم يكن المعاون قد اعتاد على ركوب الحمير .. وكان منذ ركب يجتر همومه .. وحده .. فلما لاحظ عليه شيخ البلد التعب سـأله :
     ـ تحب أن تستريح قليلا .. يا حضرة المعاون ..؟
     ـ أبدا .. هو باقى كتير يا شيخ تبارك ..؟
     ـ حوالى نصف ساعة ..
     ـ أنا عارف النصف .. هذه ستصبح ساعة ..
     ـ لا .. قربنا..
     وأراد المعاون أن يتبسط مع الشيخ :
     ـ عندك أولاد فى المدارس ..؟
     ـ عندى .. اثنان .. واحد فى ابتدائى والثانى فى ثانوى .. والذى فى ابتدائى ماشى .. أما الذى فى ثانوى فتاعبنى ..
     ـ ماله ..؟
     ـ سقط .. ثلاث مرات فى سنة واحدة ..
     ـ هاته .. يساعدك فى الزراعة ..
     ـ لاينفع .. سيصبح كالشيخ عبد المعطى تكون وظيفته أن يكتب عرائض وشكاوى فى المأمور .. اتفقت مع عمه على أن يأخذه ويشغله فى المالح !!
     ـ هذا أحسن .. والعمل سيستهلك طاقته العصبية ويبعده عن الشر ..
     ـ لقد وقع الشر فعلا .. انه الآن يشرب الجوزة .. وينام فى أحضان " الغوازى " ويذهب مع أولاد ماهر إلى المواخير .. لقد أفسدوه .. يسرقون المحصول من أبيهم العجوز البخيل .. ويذهبون إلى المواخير .. وفى كل لحظة يتمنون موت أبيهم .. ولو طال أجله سيخنقونه بأيديهم !!
     ـ ولماذا لاتبعده عنهم ..؟
     ـ ماذا أفعل .. لقد فعلت كل ما فى وسعى .. هل أترك عملى وأعيش معه فى البندر انها مشكلة ..
*** 
     وركبا سكة تشرف على النهر وكانت المياه تتدفق هادرة .. وخيل إلى المعاون .. أنه الطوفان .
     فقد بدت صفحة الماء السوداء .. تملأ ما بين الجبلين الشرقى والغربى وغرق كل ما بينهما من قرى .. وكانت المراكب الذاهبة مع التيار طاوية قلوعها وتمضى سريعة .. أما التى كانت ضد التيار .. فقد نشرت قلوعها وكانت تتحرك بمشقة كأنها تدفع أمامها جبلا من الماء .
     وكانت الزراعات التى فى الجانب الغربى قد حصدت واستلقت عيدان الذرة على الأرض .. فمر الهواء الرخى .. من جانب النهر .
     ورأى عبد اللطيف أفندى فتاة تمشى بجانب الجسر تحمل جرة وكان يشعر بالعطش الشديد فقال :
     ـ تعالى يا شاطرة .. أسقينا ..
     وفتحت الفتاة فمها فى خوف عندما وقع بصرها على الطربوش ووقفت مكانها .. ولما حادثها الشيخ تبارك .. عرف سر صمتها وقال :
     ـ انها خرساء ..
     وكانت المياه .. التى فى الجرة عكرة .. فأشار لها الشيخ تبارك إلى وابور كان " يتك " تحت الطريق .. فذهبت سريعا .. وعادت بالمياه الصافية ..
     وشعر عبد اللطيف بالراحة بعد أن شرب وروى ظمأه .. وقال بعد أن ذهبت الفتاة :
     ـ انها جميلة جدا .. وكل خرساء فى مثل هذا الجمال النادر .. الطبيعة تعوضهن ..
     ـ كان عند الشيخ ماهر .. خرساء أجمل منها .. ثم غرقت .. فى نيل مثل هذا ..
     ـ كل الفلاحات يعرفن السباحة ..
     ـ يقولون أنه أغرقها ..
     وكان الشيخ تبارك يدخن .. والدابتان أرختا رأسيهما وظهر ظل العيدان الطويلة على الأرض .
     وكانت الشمس .. تخرج ما فى جوفها من حرارة لتستقبل الظل ..
     وسأل عبد اللطيف أفندى يستوضح المسألة :
     ـ ولماذا يفعل هذا ..؟
     ـ تزوج الشيخ ماهر .. أربع مرات وماتت زوجاته جميعا .. وكان يرث فى كل مرة ..
     ولما أراد أن يتزوج للمرة الخامسة وهو فى سن السبعين خشى أولاده أن يقاسمهم وارث جديد فى الميراث واجتمعوا عليه وحاصروه وهددوه بالقتل ان تزوج .. وكان الرجل قوى البأس .. فلم يعبأ بتهديدهم ولكن الفتاة خشيت على نفسها من شر أولاده .. فلم تقبل الزواج منه بعد ما حدث من عراك .. وبحث عن واحدة أخرى فاشترطت عليه أن يسكن معها فى القاهرة .. ولكن أولاده حاصروه وأطلقوا عليه الرصاص فلم يبرح مكانه ..
     وكانت عنده فتاة خرساء تملأ له أبريق الوضوء .. تربت فى بيته وهى صغيرة حتى أدركت وغدت أنثى شهية .. وذهبت مرة تحمل الجرة .. إلى البئر .. فلاحظ عليها الفلاحات كبر بطنها .. فذعرن ..
     ووضعت واحدة منهن يدها على بطن الفتاة وسألتها بالاشارة :
     ـ من الذى فعل هذا يا نبوية ..؟
     ـ سى .. سى .. سيدى .. ماهر ..
     نطقت الفتاة .. باسم سيدها .. وما نطقت فى حياتها ..
     وضحكت النسوة .. ثم وجمن .. وأصابهن الذعر .. وشاع الخبر فى القرية ..
     وعندما ارتفع النيل .. وزمجر .. كما تراه .. الآن .. اختفت الفتاة عن الأنظار ولم يرها أحد بعد ذلك أبدا .. ويقولون أن خدم ماهر كمموها ووضعوها .. فى جوال .. أثفلوه .. بالحجارة ..
     ـ وأهلها ..؟
     ـ ليس للفتاة أهل .. انها يتيمة .. وتربت فى بيت هذا الغنى كجارية من جواريه ..
     ـ وأهل القرية ..؟
     ـ ليس فى يدهم دليل .. وأنت تعرف الفلاحين .. أخرسهم ظلم القرون .. وكان فى مدرسة القرية الأولية مدرس يدعى الشيخ رجب .. وعلم بخبر الفتاة فصعد المنبر بعد صلاة الجمعة وقال وهو منفعل :
     ـ أيها الناس .. ان صلاتكم باطلة وذاهبة إلى الشيطان .. أين ذهبت نبوية ..؟ ان دمها فى أعناقكم إلى يوم القيامة .. وعندئذ ستحشرون فى نار جهنم ..
     وكان الفلاحون يرتعشون من الخوف .. ولكن إذا نظروا إلى وجه ماهر وجبروته انكمشوا .. ووصل الخبر إلى ماهر .. وفى يوم السبت التالى .. لم يدخل الشيخ رجب المدرسة وعلم الفلاحون أن مدير التعليم نقله إلى المصحة .!
     وقال عبد اللطيف .. مبتسما :
     ـ وكيف نخرج .. أرض .. الفلاح المسكين من جوف هذا الرجل إذن .. وماذا يكون مصيرنا ..؟
     ـ إننا ننهى مسألة إدارية .. لأجل زراعة هذا العام .. وأمامهما المساحة والقضاء لتفصل فى الأرض ..
     وكان قد اقتربا من العزبة وبدا أمامهما جسر طويل .. معرش بقطع الأخشاب .. والبوص .. ومياه النهر تنطحه وكان بيـن المـاء وبينـه مقدار أربعة قراريط .. وسأل المعاون :
     ـ من الذى عمل هذا الجسر ..؟
     ـ الشيخ ماهر .. انه يحمى زراعة مئات من الأفدنة زرعها .. قطنا .. وخضارا .. ويحمى عزبته كلها ..
     وكانا قد اقتربا من البيوت .. وبدت الطيور تأكل الحب .. والحيوانات ترعى الحشائش .. والبط يقفز إلى الماء وكان الوابور معطلا .. ولكن المياه لاتزال فى المجارى .
     وشاهد المعاون جديا صغيرا يتوثب .. ونعجة نائمة وناقـة تجتر .. وقد خلـع عنها الهودج .. وبدا أثره فى ظهرها ..
     وعندما اقترب الراكبان أقبل نحوهما الفلاحون .. وتناول خفير العزبة الركوبتين وقيدهما فى جانب ..
     وكان الخفير يود أن يمشى أمام حضرة المعاون إلى مضيفة شيخ العزبة .. ولكن المعاون رأى أن يبقى بجانب الوابور فى الهواء .. الطلق الذى يطرد الناموس .. وكان الظل قد فرش .. 
     وجاءوا لهما بدكة فرشوها بحرام .. ووضعوا عليها مخدتين فى الظهر .. وجلس المعاون ينتظر الدلال .. وجاء الدلال وقدم لهم شيخ العزبة طعاما خفيفا لأنهم كانوا فى شدة الجوع .. ثم ذهب الدلال ومعه شيخ البلد .. وشيخ العزبة .. والفلاح المشتكى .. ووكيل ماهر .. إلى موقع الأرض .. لقياسها ..
     وجلس المعاون فى مكانه .. ووقف على مبعدة منه بعض الفلاحين .. ثم جلسوا على قرافيصهم فى الظل .. يتحدثون وفهم من كلامهم أن ماهر مريض ولولا مرضه الشديد لجاء وحضر المقاس ومسك بالقصبة ..!
     وحمل له الخفير الشاى .. وكوبا من الماء المروق .. وكانت الكباية الصغيرة التى صب فيها الشاى غير نظيفة فتأفف المعاون وصب الشاى على الأرض فى غفلة من الحاضرين ..
     وحمل الخفير ما بقى من الشاى إلى الفلاحين .. وسمع المعاون وهو جالس .. امرأة تزعق .. وتسب .. وتشكى لربها .. وعلم أنها زوجة الفلاح صاحب الشكوى وكان المعاون يود أن تنتهى المسألة قبل الغروب .. ليستطيع أن يركب الركوبة إلى البندر .. وفى الصباح يذهب بالسيارة إلى المركز لأنه لن يركب المعدية مرة أخرى فى هذا الطوفان ..
     وعادت امرأة عبد المحسن تزعق من جديد ..
     ـ ربنا .. المنتقم .. الجبار .. من تلاثين سنة مغلبنا .. ودا عبد الموجود الجهادية وطلع صابر الجسر .. وأخرتها حياخد أرضنا .. مش مكفياه الربعميت فدان ..
     ـ يا وليه أسكتى ..
     ـ أنا مش خايفه .. الحاكم أهو قاعد .. والخوف موتنا .. مين اللى حط الخرسة فى الشوال .. وخيط عليها .. مين ..
     ـ يا وليه اسكتى ..
     ونهرها .. خفير الوابور .. وطردها من المكان .. وبدت المرأة فى سوادها .. يابسة كعود الذرة الجاف .. ورمقت المعاون بنظرة فاحصة وهى تنسحب وترد طرحتها على وجهها المعروق ..
     وكان المعاون يرد بصره عن البيوت الصغيرة .. إلى النهر الطامى الذى أمامه .. والذى يرد موجه الجسر .. وبدت المراكب أمامه من بعيد كأسراب الطير .. وكان هدير النهر شديدا .. وأخذت اللجة تتحرك كلها وتنطح الجسر .
     وتلفت المعاون على زعاق وجرى الفلاحون إلى ناحية المجراة وكانت المياه قد نفدت منها .. وتدفقت على زراعة لم يتم حصدها .. وجرى الفلاحون بالفئوس .. والعلايق .. سريعا .. وسدوا الثغرة .. ولكن المياه اقتربت من البيوت .. وتسربت فى الشقوق ..
     ورأى المعاون امرأة تخرج من خلف أكوام الحطب والبوص .. تحمل صغيرا .. وكان وجهه أزرق .. وعلم أن عقربا لدغته .. وطوت المرأة الصغير فى حرام وهى تسأل عن الحلاق ليفصده .. وأمرها الأهالى أن تدخل به الكوخ لأن الهواء يؤذيه .. والغلام بين حى وميت .. وتأثر المعاون من منظر الغلام .. ووجد نفسه بعد قليل ينهض .. ويتجه إلى كوخ الفلاح ..
     وقال للأم :
     ـ يا ولية .. نظفى الواغش الذى حواليك .. لأنه يأتى بالعقارب ..
     ـ حاضر ..
     ـ الصبح لازم تشيلى هذا كله ..
     ـ حاضر ..
     ـ أين أبوه ..؟
     ـ فى الغيط .. بيفوس دره ..
     ونظر إلى الغلام .. فوجده يرتعش ووجهه أزرق .. ويده ملقاة بجانبه .. كأنها ليست من جسمه .. وكان الهباب فى سقف الكوخ .. والصماد فى الجدار .. والملابس القذرة معلقة فى جريدة منكوتة فى الحائط .. وكان المنفذ الوحيد للقاعة .. هو طاقة صغيرة لاتستطيع أن تطل منها رأس انسان ..
     ولاحظت المرأة عين المعاون .. وهى تفحص كل شىء فى القاعة .. وبدت مستسلمة .. وقال وهو يرد بصره إلى الغلام :
     ـ لاتعطه شيئا يأكله .. اطلاقا .. وسآخذه معى إلى الاسعاف فى البندر ..
     ـ ربنا يوتق حزامك .. مات أخوه الصغير .. من لدغة .. كهذه ..
     وكان صوت المرأة باكيا ..
     ـ ولكن هذا لن يموت .. اطمئنى ..
     ـ ربنا ينصرك ..
     وخرج المعاون من الكوخ وهو يشعر بكآبة تضغط على قلبه وتعصره ..
     وعادت إلى رأسه صورة زوجته وأولاده وطفله الصغير سمير الذى يحبـو فى البيـت .. واشـتاق لأن يضمه إلى صدره ..
     وعندما عاد إلى الدكة .. كان الدلال قد ظهر بالقصبة فى أول الطريق .. والشمس قد سقطت فى النهر .. وسر المعاون لأن المهمة انتهت قبل الليل ..
     ورأى الفلاحين يخرجون من المزارع ويسوقون المواشى أمامهم .. ظهرت الأبقار والثيران الضخمة .. والجاموس .. وكان الجميع يتحركون ببطء .. وشاهد جاموسة ضخمة تجرى على الجسر الذى يحجز المياه .. وفلاح يدفعها عنه بالعصا .. ثم انطلقت بأربع بين المزارع ..
     واقتـرب الدلال .. وسمـع المـعاون شيخ البلد يقول للخفير :
     ـ روح هات .. حصان الشيخ عبد الكريم لحضرة المعاون .. لأنه تعب من الركوبة ..
     وسأله المعاون :
     ـ خلصتم ..؟
     ـ أيوه الحمد لله وريحنا عبد المحسن .. حسبنا عليه قيراط واحد وقع بحر .. والباقى على الشيخ ماهر ..
     وجلسوا يشربون الشاى وينتظرون الركائب ..
     وأخذ الظلام يزحف ببطء .. وذاب كل شىء فى الغسق ..
***
     وسمعوا شيئا .. ضاع فى صوت الموج .. ثم خيم السكون .. وتطلعت أعينهم جميعا إلى الجسر .. ثم علا الصراخ .. وسمعوا هدير الماء المتدفق .. فجروا إلى ناحيته جميعا وحتى المعاون وثب من مكانه .. ووقف يتطلع ..
     وكانت المياه قد نفدت من الجسر وساعدت رجل الجاموسة التى جمحت منذ لحظات على فتح ثغرة .. ولم يلاحظها أحد .. وكان النيل يزيد فى كل ساعة .. وضعف السد فانهار جزء منه وتدفقت المياه .. تجرف أمامها كل شىء ..
     وسبح التبن .. والغلال .. والطيور .. وأطنان البوص .. وظهر الرجال كالمردة على الجسر يحملون التراب .. وعروق الخشب .. ويحاولون بأجسامهم .. سد الثغرة .. ثم وجدوا أنه لاجدوى من عمل شىء .. وأن الغول يزحف عليهم بكل قوته وكل جبروته ..
     فنجوا بأرواحهم .. ثم سمعوا صوت رجل يهدر .. ظهر رجل جديد وكانوا يعرفون صوته جيدا .. فعادوا جميعا إلى العمل .. حتى المتقاعس منهم .. خافوا منه .. وحملوا الطين والتراب .. لسد الماء ..
     وكان الشيخ ماهر قد سمع بالخبر .. فطار إلى الجسر رغم أنه يرتعش من الحمى ..
     وكان متدثرا وعلى كتفه عباءة .. وقف صامتا وكف عن الصياح .. ولكن مجرد ظهوره حول كل شىء إلى خلية نحل .. وتحول الرجال إلى مردة .. وخلع عباءته واندفع إلى الماء .. كانت حقوله كلها تغرق .. وكان قطنه الأبيض ملطخ بالطين ومواشيه تسبح مع التيار ..
     وأدرك الرجال خطورة الحال .. عندما انهار الجزء القوى من السد .. ولكنهم وجدوا ماهر يعمل .. فلم يستطع واحد منهم أن ينسحب .. ظلوا يعملون حتى طواهم الظلام وجرفهم الوحل .. ونسوا ماهر ..
     وتفقدوه فلم يجدوه بينهم .. وانسحبوا سريعا .. إلى الأرض العالية .. يسوقون أمامهم مواشيهم ويحملون أطفالهم ونساءهم .. وما يستطيعون حمله من متاعهم ..
     ودفع شيخ البلد المعاون إلى سطح الوابور وتجمع الأهالى جميعا .. فى قطعة صغيرة من الأرض لاتصل إليها المياه ..
     وفى تلك البقعة السوداء الصغيرة وسط هذا الطوفان .. تجمع الناس كيوم الحشر .. وفى كل ساعة كان يخرج من الماء لاجىء جديد أو تسبح بقرة ..
     وصعدوا إليها جميعا .. عدا ماهر ..
     وقال الفلاحون .. انه بقى .. وسط الماء يسده بجسمه ويصرخ وقد أصابته لوثة .. وقال بعضهم ان الماء حمله ثم طواه ..
***
وفى ضوء الصباح بدا شراع سفينة يقترب من بناية الوابور وعندما اقتربت السفينة .. طوت الشراع ..
     وكان الغلام الملدوغ .. هو أول من نزل فيها وكان قد تصبب عرقا طول الليل وجف عرقه وأحس بالعافية ..
     ولكن المعاون رأى أن يحمله معه إلى البندر .. ويأتى له بثوب جديد ..
     وعندما تحركت السفينة .. كان الغول قد التهم كل ما حوله من يابسة ..
================================  
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 466 بتاريخ 19/9/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959          
=================================  



 









العاصفة

أشار علىّ الدكتور " كارل " الطبيب النمسوى المشهور فى أمراض الروماتيزم أن أذهب بزوجتى إلى " كارمن سيلفا " على ساحل البحر الأسود .. حيث تعالج بالطبيعة شهرين على الأقل ..
وكنا فى شهر مايو وريح الصيف قد أخذت تهب .. فركبنا القطار السريع من " فينا " إلى " بوخارست " ومنها اتجهنا إلى البحر ..
وبلغنا المصيف فى الساعة الثامنة صباحا بعد سفر طويل ..
وكانت المدينة صغيرة وحالمة ولفرط هدوئها تصورتها خالية من السكان .. فقد كان موسم الاصطياف لم يبدأ بعد ..
واستراحت زوجتى فى الفندق الذى اخترناه قريبا من البحر ..
وفى العصر خرجنا إلى الشرفة الزجاجية وجلسنا مع النزلاء القليلين نشرب الشاى وعيوننا تتطلع إلى الخليج .. وكانت الشمس ساطعة والزوارق راسية على الساحل .. والحدائق الصغيرة تطوق المساكن الجميلة .. وبدت المدينة كجنة صغيرة فى أرض الأحلام .. وسرت " أمانى " بما رأته من جمال يثير المشاعر .. ولكن الألم كان يمزق جسمها .. ويشوه أمام عينيها كل حسن .. والواقع أننى كنت أتألم لحالها وأتعذب .. فقد طال مرضها أربع سنوات كاملة وأدركنى اليأس لما علمت أن والدها مات بنفس العلة .. وكانت تجهل ذلك .. ولكنها كانت تتوقع أن يزحف الروماتزم إلى القلب .. وكنت أحاول أن أبعد عن رأسها هذه الخواطر المدمرة ..
وفى الصباح عرفت مكان الحمام .. وكان مخصصا للسيدات فتركتها تدخل وحدها .. ووقفت قليلا أحاول التحدث مع الفتاة العاملة على الباب لأعرف خصائص هذا " الطين " الذى تدلك به الأجسام البشرية فيفعل فيها فعل السحر .. فلم أوفق لأن الفتاة كانت لا تعرف غير لغتها وقليل من الإيطالية والألمانية ..
ولما يئست منها .. تبادلت معها بضع كلمات بالإشارة .. ثم خرجت إلى المدينة .. وكان كل شىء فيها يتركز على الساحل .. ومشيت فى الشوارع الصغيرة .. وأنا لا أعرف لى وجهة .. ثم وجدت قريبا من المحطة " كشكا " على الطريق النازل إلى البحر .. فاتجهت إليه لأشرب أى شىء مثلج ولكننى لما اقتربت منه .. عرفت خطأ تقديرى فقد كان محلا لبيع الصور .. وآلات التصوير .. وكان فيه فتاة تلبس مريلة زرقاء بسيطة .. استقبلتنى ببشاشة ولما وجدتها تعرف قليلا من الفرنسية .. ولم أجد فى المحل غير الأفلام .. اشتريت فيلما ..
ووقفت أتحدث معها وأسألها عن المدينة .. وعن آخر قطار يذهب إلى إيفورى .. ومامايا .. وشعرت بمثل الندى على قلبى .. فقد كانت الفتاة حلوة ولطيفة .. وفى صوتها عذوبة .. وكان السواد الشديد الذى فى عينيها قد أسرنى تماما .. وبدت أكثر فتنة لما قالت لى وأنا خارج :
ـ هات الفيلم بعد التصوير " لنحمضه " لك مجانا ..
فابتسمت ولم أعقب ..
وذهبت إلى " أمانى " فى الميعاد الذى اتفقنا عليه فوجدتها قد خرجت من الحمام .. وارتدت ملابسها .. وركبنا عربة إلى الفندق ..
ولما كان الجو لا يزال باردا فقد تغدينا داخل الشرفة الزجاجية .. وبعد أن شربنا القهوة .. أبدت رغبتها فى أن نستريح فى غرفتنا .. وتحاملت علىّ حتى وضعتها فى الفراش وأخذنا نتحدث حتى نامت .. وعندما استيقظت كان الغسق يزحف .. فقالت لى لما وجدتنى لا أزال فى الغرفة :
ـ لماذا تحبس نفسك هكذا .. أخرج وتنزه .. تعذبت كثيرا من أجلى ..
ـ أتركك وحدك ..؟
ـ سأقرأ وأتسلى بالقراءة ..
وهنا دخلت علينا فتاة الفندق بالشاى ..
فقالت " أمانى " :
وسأتحدث مع هذه حتى تعود ..
وابتسمت الفتاة .. وكانت تعرف الفرنسية .. وتحت إلحاح أمانى .. خرجت من الفندق .. وسرت فى المدينة متخذا طريق المحطة .. وقبل أن أبلغ رصيفها اعترضنى على الضوء الشاحب شاب يلبس ملابس الغجر .. وأخذ يعرض علىّ ألوانا مختلفة من الملابس الوطنية الزاهية .. وكانت مزركشة ومصنوعة باليد ..
فأفهمته أننى لا أريد شيئا منها .. ومع هذا تبعنى وأخذ يعرض ويلح ويقول لى أنه يبيع بأية عملة .. باللى .. وبالمارك .. وبالليرة .. وبالدراخمة .. فلوحت له بيدى فى غضب ..
 ورأيت وجهه الأسمر يمتقع فجأة وعينيه تبرقان .. وتمتم بشىء لم أفهمه واستدار وتركنى .. وكان ضوء الكشك هو الوحيد الذى يلمع أمامى ويجذبنى .. فتقدمت إليه ..
ووجدت الفتاة على الباب .. وقالت باسمة :
ـ حاذر منه .. أنه يريد أن يعرف مكان نقودك ..
وأدركت أنها كانت تراقبنا من بعيد ..
ـ إطمئنى .. فليس معى نقود على الاطلاق ..
ـ هذا أحسن .. ستريح نفسك من كثير من المتاعب ..
ـ هل هو رومانى ..؟
ـ أنهم يعيشون فى وادى الدانوب .. فى الشمال والجنوب .. ولا تعرف إن كان رومانيا أم مجريا .. ولكنهم يأتون إلى هنا فى الموسم .. ومعهم آلاتهم الوترية وملابسهم المزركشة .. وفى الشتاء يختفون كلية حتى تتصور أن الأرض ابتلعتهم ..
وكنت أود أن أسألها هل هذا الحانوت الصغير ملكها أو هى عاملة فيه .. ولكننى كرهت هذا الفضول .. وسألتنى :
ـ هل أخذت مناظر جميلة قبل الغروب ..؟
ـ أجل ..
ـ فى الصباح إذهب وصور من هناك ..
وأشارت بيدها فى دائرة واسعة ..
وقالت وقد حسبتنى طالبا قطع دراسته ..
ـ لماذا جئت مبكرا قبل الأجازة ..؟
ـ إننى فى الطريق إلى استانبول وجئت هنا لأرى الساحل وأقضى يومين فقط ..
ولكنها رأتنى بعد يومين .. وبعد أسبوع .. وكنت فى كل يوم أشترى منها فيلما .. ولما سألتنى عن الأفلام التى صورتها لتحميضها لى .. قلت :
ـ غدا سأجىء بها جميعا ..
***
وكنت أقابل هذا الغجرى فى صباح كل يوم فى طريق الساحل .. وفى قلب المدينة .. وعلى ذراعه الملابس المزركشة كأنه ما باع منها شيئا .. وكان يعترضنى .. وأرفض .. ويمتقع لونه .. ثم يبتسم ويطارد غيرى .. وكان واسع الخطو .. يرتدى سروالا أحمر وقميصا أبيض مزركشا طويلا واسع الكمين .. ويبدو قويا مفتول العضل .. لا يعبأ بشىء يقع فى الحياة ..
وكانت " أمانى " لا تشعر بزوال أعراض الروماتيزم .. ولكن الشمس والهواء أكسباها صحة ونضارة ..
وكانت من الناحية النفسية تشعر بالفراغ فقد جئنا قبل الموسم .. وليس فى الفندق موسيقى ولا " جاز " ولا سيدات من المصيفات .. تتحدث معهن وتتسلى .. كما أنها كانت لا تستطيع التجول على البحر .. فقد منعها المرض من التحرك .. ووجدت نفسها محبوسة بين الفندق والحمام ..
وسألتنى بعد عشرة أيام :
ـ رشاد .. هل أشار عليك الدكتور بأن نمكث هنا شهرين حقا ..؟
ـ أجل ..
ـ إنها مدة طويلة .. وماذا نفعل فيها .. إننى مسجونة .. وقد حبستك معى ..
وتندت عيناها بالدموع فطوقتها بحنان ومسحت عبراتها بشفتى ..
وخرجت تحت إلحاحها فى طريق الساحل .. وكان الوقت عصرا .. والرياح شديدة .. ولكنها لا تنذر بالعاصفة .. وسمعت صوت الأمواج .. ورأيت فتاة ألمانية تقدم لى آلة تصوير صغيرة .. وتطلب منى أن أصورها .. مع صديق لها ..
فاعتذرت لها .. بأنى لا أعرف كيف أصور ..
فضحكت الفتاة فى استغراب .. وجرت إلى الكشك .. وعادت تجر الفتاة التى أعرفها .. وصورت صاحبة الكشك الفتاة الألمانية مع صديقها أكثر من صورة ثم انصرفا ..
وقالت لى الفتاة صاحبة الكشك وأنا داخل وعلى فمها ابتسامة خبيثة :
ـ أتريد فيلما ..؟
ـ لا ..
وضحكت وعرفت أن الفتاة الألمانية قصت عليها ما جرى ..
ـ لماذا تشترى الأفلام .. ما دمت لا تستعملها ..؟
ـ لأراك .. وأسمع صوتك ..
ونكست رأسها .. ثم غابت فى الداخل وأحضرت لى مجموعة من الصور .. وقالت :
ـ هذه الصور .. تغنيك عن التصوير ..
فأخذت أقلب البصر فيها ..
وسألتنى :
ـ أعجبتك ..؟
ـ رائعة ..
وطويت الألبوم ..
ـ إنها هدية لك .. وقد كتبت لك الاهداء ..
ورأيت إسمى مكتوبا بحروف لا تينية جميلة .. فاستغربت .. وسألتها :
ـ وكيف عرفت الاسم ..؟
ـ من الغجرى ..
***
وتناولت الألبوم .. ووضعته على قلبى ..
ثم اتفقنا على أن نقضى يوم الأحد المقبل معا ..
وتناولت يدها .. وانصرفت ..
وجاء يوم الأحد .. وبعد أن أدخلت زوجتى الحمام فى الصباح طلبت من الفتاة العاملة أن تعود بها إلى الفندق .. وقلت لزوجتى أنى ذاهب إلى القنصلية لأحصل على تأشيرات ضرورية لجواز السفر ..
وكانت إيلينا .. تنتظرنى فى المحطة .. وركبنا القطار .. ونزلنا فى المحطة التالية .. ولم يكن يعنينى أن أعرف اسم المدينة .. أو أعرف فى أى مكان نحن .. فقد انحصرت دنياى فى إيلينا .. وأخذنا نجرى فى المروج التى لا حصر لها ونقفز وكأننى كنت فى حاجة لأن أثبت لها أننى أستطيع أن أجرى وأقفز مثلها .. أو أننى انفلت فجأة من القفص .. ووجدت نفسى أطير وأحلق بأقصى سرعة .. وتغدينا .. وبعد العصر عدنا .. وقبل الفندق أمسكت بيدها .. وتحت شجرة معرشة جذبتها إلى صدرى وقبلتها فانفلتت منى وجرت كالغزال ..
***
ولما استدرت لأدخل الفندق .. وجدت زوجتى فى الشرفة واقفة على رجليها دون أن ترتكز على أحد .. وبصرها عالق بشخص يتحرك فى الطريق ..
وكانت ترتدى قميصا مزركشا واسع الأكمام ..
ـ من .. أين جئت بهذا القميص ..؟
ـ من الرجل الذى هناك ..
وكان هو الغجرى بعينه .. الذى تتابعه ببصرها ..
ـ وكم دفعت فيه ..؟
ـ لم أدفع شيئا ..
ـ كيف ..؟
ـ سيأتى غدا .. بقمصان .. وأشياء أخرى جميلة .. وغريبة .. كل ما معه جميل ..
وابيض وجهى وخرست .. ورأيت العاصفة تقترب بكل ما فيها من عنف لتقتلع بيتنا وتطوح بنا بعيدا ..
وكنت أود أن ألمس لحمها وساقيها وذراعيها وأتحسس عظامها لأعرف كيف انتصبت وحدها .. ووقفت فى الشرفة تودعه ..
ولكننى لما وجدت الانفعال والعواطف المتحركة ..
عرفت السبب ..
***
وفى الصباح تركنا الفندق .. ركبنا أول قطار .. وكانت الفتاة واقفة على باب الكشك بلباسها الأزرق الجميل .. والغجرى يذرع الطريق بملابسه المزركشة .. والاثنان يجهلان سبب سفرنا المفاجىء ..
========================== 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 268 بتاريخ 28/2/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
========================== 
  
    






















الزلة الأولى

كان إسماعيل ذاهبا على الأقدام إلى بيته فى المنيل .. وعبر كوبرى محمد على .. وعندما مشى تحت الأشجار القائمة على يسار الطريق شعر بوحشة المكان ورهبته فى هذا الظلام الشديد .. فقد كانت الحرب دائرة فى الصحراء بين الألمان والإنجليز .. وقيود الاضاءة على المصابيح فى الشوارع وعلى السيارات وفى البيوت ..
وكانت ليلة من ليالى أغسطس .. وقد تعود إسماعيل أن يرجع إلى بيته وحده فى الليل بعد سهرة مع أصحابه على قهوة فى قصر النيل .. وكان فى خلال هذا المشوار الطويل .. يتأمل ويفكر فى الحياة وفى مستقبل الحضارة بعد هذه المجزرة البشرية .. وفى مستقبل بلاده وفى كل ما هو خير للإنسان ..
وكان أعزب فى السابعة والعشرين من عمره طويلا قوى الجسم .. يزاول الرياضة البدنية ويعتبرها لازمة للحياة كالماء والهواء .. ويعجب بمكفادن إعجابه بنبى ..
ولهذا كان يمشى كثيرا ويستريح إلى هذه الرياضة .. وقبل أن يجتاز طريق الأشجار الضخمة .. سمع صراخا مكتوما .. وتبين أن امرأة تستغيث .. فجرى نحو الصوت عدوا .. ووجد سيدة وغلاما على دراجة يضربها ويحاول أن ينتزع منها حقيبة يدها .. ووصل فى اللحظة الحاسمة .. فأمسك بالغلام ليقبض عليه ولكن هذا تخلص منه بعد أن ألقى بالحقيبة .. وفر على الدراجة فى جوف الظلام ..
وخرج إسماعيل من المعركة .. وقد تمزق قميصه وسترته وضاعت ساعته ..
ونظرت إليه المرأة ومسحت عبراتها وخجلت من الضرر الذى سببته له .. واعتذرت فى صوت رقيق خافت ..
ونظر هو إليها وتمعن .. وعجب من وجودها فى الليل وحدها فى هذا المكان .. وكان يتصور لأول وهلة أنها ممرضة انتهى عملها فى المستشفى .. ولكن صوتها وهندامها غيرا من رأيه ..
وكانت قد قاومت الغلام لأن ملابسها اتسخت وتكرمشت .. وشعرها تشعث .. وبقيت آثار المعركة على وجهها المحمر ..
ولكن السكينة عاودتها وهى تسير هادئة مطمئنة بجوار إسماعيل .. كأنه قريب أو صاحب لها ..
وكانت تكاد تلتصق به كلما رأت سيارة إنجليزية تمر فى الطريق .. وسألها :
ـ لازلت خائفة ..؟
ـ لأ .. ولكن أعصابى تعبانه .. من الرجفة .. تسمح تمشى على مهلك قليلا .. تعبت ..
ـ نبحث عن تاكسى ..؟
ـ لأ .. مرسى .. أنا .. ما كنت سأمشى وحدى فى هذه السكة .. ولكنى رأيتك ..
ـ رأيتنى ..
ـ نعم .. وأنا نازلة من الترمواى عند القصر .. رأيتك ماشيا فى الشارع وحدك .. ورايح المنيل .. وكنت سأركب تاكسى .. ولكنى خفت من سواق " التاكسى " فى الليل وحدى .. وقلت يوجد أفندى قدامك الحقيه أحسن .. ومشيت وراك ..
ـ ولماذا سبقتنى ..؟
ـ أنت لازم حدت عن الطريق واشتريت سجاير .. وكنت أجرى لألحق بك .. بينما أنت كنت وراى .. ولا بد أن الولد رآنى وأنا أعبر الكوبرى وحدى ..
ـ لا بأس وليكن هذا درسا .. حتى لا تمشى فى الليل وحدك مرة أخرى ..
ـ عمرى ما عملتها .. وهذه آخر مرة ..
ـ وساكنه أين حضرتك ..؟
ـ فى آخر المنيل ..
ـ لابد أن أوصلك ..
ـ لا داعى لكل هذا التعب لما نقرب من البيوت كفاية ..
وكانت متأنقة فى ملابسها وتبدو من لهجتها فى الحديث متعلمة وعلى درجة من الثقافة .. وكانت رشيقة طويلة وجسمها لينا ملفوفا .. ولم ير وجهها فى الضوء وإنما رآه فى الظلام كأنما لفه برقع خفيف ..
وكان ينظر إلى جانب وجهها ويتأمل محاسنها عندما سألته :
ـ لماذا تجرى .. حضرتك ..؟
ـ آسف .. أنا مشيتى هكذا .. وأسرع من أجلك ..
ـ كيف ..
ـ قد تكون تأخرت .. ويسألونك ..
ـ لا أحد يسألنى .. حسين مسافر ..
ـ ولأنه مسافر خرجت ..
ـ أبدا .. إنى أخرج وهو موجود .. كنت عند أختى أنها مريضة .. وأنت تعرف النسوان كل ماقوم .. أبقى .. الوقت بدرى ..
ـ أنها قلة ذوق منى .. ولماذا أسألك ..؟
ـ لابد أن تسألنى لأنك اتبهدلت .. وتمزقت هدومك وضاعت ساعتك .. وكيف نعوض هذه الخسارة ..؟
ـ إنها مسألة بسيطة .. إنى أطلب حاجة واحدة ..
ـ ما هى ..؟
ـ أرى وجهك فى النور ..
ونكست رأسها وحولت عنه وجهها ..
وصمتت .. فقال :
ـ طلب سخيف ..
ـ لا أدرى .. ولكن من أين تأتى بالنور .. فى هذا الظلام المحيط .. نقف تحت فانوس ..
ـ الفوانيس نورها خافت ..
ـ ما الذى نعمله إذن ..؟ ننتظر حتى يطلع القمر ..
وضحكت واستطردت :
ـ وهب أنك رأيتنى .. ما الذى ستأخذه ..؟ ستأخذ إيه من كده ..
ـ آخذ زادا من السعادة .. أعيش به حتى الموت ..
ـ يا سلام .. يمكن أكون وحشه ..
ـ لا يمكن .. الصوت الجميل هذا .. يكون صاحبه وحش .. هذا غير ممكن ..
ـ يمكن أنت الذى أرسلت الولد بالعجلة وراى ..
ـ هذا صحيح ..
وضحك .. وقال فى هدوء :
ـ تعرفى .. الذى أتمناه الآن ..
ـ إيه ..؟
ـ أن لا تكون هنا .. بيوت .. ولا منيل .. ولا جزيرة .. ونظل ماشيين على طول ..
ـ لغاية أين ..؟
ـ لغاية أسوان .. لغاية الخرطوم ..
وسرت فى أعماقها ولم تشعر بهذا .. وقالت مغالطة ..
ـ إلى هذا الحد بتحب المشى ..؟
ولم يقل لها شيئا .. فقد دوت صفارة الإنذار وقطعت حديثهما ..
ونظر إليها .. وتوقفا عن السير .. ورآها خائفة مضطربة .. وزاد اضطرابها لما سمعت صوت لطائرة ودوى المدافع المضادة .. وأشعلت السماء بالنيران .. فالتصقت به مذعورة .. وكانا مكشوفين فى الصحراء ..
فقال :
ـ من رأيى نقرع أول بيت فى الشارع .. وتدخلى .. وتبقى فرصة لتصلحى هندامك ..
ـ كيف نخبط على الناس .. يقولوا علينا إيه ..؟
ـ طيب بيتك بعيد .. نجرى ..؟
ـ بعيد جدا ..
ـ أنا بيتى قريب .. نقدر نوصل حالا ..
وصمتت .. وبعد قليل سألت :
ـ أين بيتك ..؟
ـ فى الشارع التانى ..
ـ نختبىء فى المدخل أحسن ..
وسحبها فى الظلام إلى بيته .. وكانت فيلا صغيرة فى مكان منعزل فشعرت بالأمان عندما وصلت ووقفت على بابها ..
وطال وقوفهما فى الخارج .. فقال فى هدوء :
ٍـ سأفتح الباب .. وتسمحى تدخلى وتصلحى من شأنك .. وأنا منتظر هنا .. ما الذى يقوله أهلك عندما يرونك مشوشة الثوب هكذا ..
ـ أيوجد أحد فى الداخل ..
ـ أبدا .. والبيت كما ترين لا أحد فوق ولا أحد تحت ..
وفتح الباب فدخلت .. وعندما أشعل النور فى البهو ونظر إلى وجهها ذهل من فرط جمالها ..
وقالت :
ـ لماذا تنظر إلىّ هكذا ..؟
ـ لأن جمالك فوق كل تخيلات العقل ..
ونكست رأسها وسرت من غزله .. وقالت :
ـ أطفىء النور أحسن يعملولك مخالفة ..
فأطفأ النور .. وجلس على الباب الخارجى .. وكان مفتوحا .. ولما طالت الغارة ورأى شظايا المدافع المضادة تتساقط دخل وأغلق الباب .. وجلس معها فى الظلام ..
***
وظلت بكامل ملابسها فى الصالة .. وقد شعرت بالخوف .. لأول مرة مع هذا الرجل .. ولم تدر أكان منبع الخوف الانذار بالغارة .. أم مجرد غلق الباب عليها وانفرادها برجل غريب فى ظلام الليل .. وشعرت بقشعريرة .. وبغريزة الأنثى وهى تتجمع لتكافح وتدفع عدوان الرجل .. وعندما أحست به وهو يتحرك فى الغرفة المجاورة ليغلق النوافذ .. شعرت ببعض الراحة لأنه ابتعد عنها ..
وأخذت تلوم نفسها لأنها طاوعته ودخلت البيت .. بيت رجل غريب .. وهى الآن وحيدة معه لا حيلة لها ولا حول ولا قوة ..
وخيل إليها أنه هو الذى أطلق صفارة الانذار وافتعل الغارة ليجىء بها إلى هنا .. ورأته على ضوء السيجارة يدخن فى الغرفة .. وقد مد رجليه ووضعهما على كرسى .. واستلقى .. كأنه لايعنيه من أمرها أى شىء ..
جلس صامتا .. أخرس .. ثم سمعته يقول :
ـ هل أشعل لك شمعة ..
فلم ترد عليه .. وإن كان صوته قد أسرها .. وقيدها صوته الخشن .. الهادىء ..
وتحرك وجاء إليها .. وسأل :
ـ ماذا جرى .. لماذا تكورت هكذا .. وتبكين ..؟
ـ وفتح الباب الخارجى فى هدوء .. وقال :
ـ هذا هو الباب مفتوح يا هانم .. فتفضلى .. إن كنت خائفة .. من أى شىء ..
ومع أنه فتح الباب الخارجى فعلا .. ولكنها لم تخرج .. ولم تتحرك وظلت جالسة ..
***
ورأته فى الظلام يخلع قميصه الممزق .. ولمحت صدره البرنزى وكتفيه .. ولبس قميصا آخر .. وجاء إليها وربت على كتفها ..
ـ قومى يا هانم إلى هذه الغرفة .. وأصلحى من شأنك ..
***
ونهضت ودخلت الغرفة وتركها وحدها ..
وانتهت الغارة .. فأضاء النور فى الصالة .. وظل جالسا ينتظرها وخرجت متأنقة .. وقد عاودها الهدوء وقالت :
ـ أين القميص المقطوع ..؟
ـ لا يهم الآن ..
ـ لا بد أن أصلحه ..
وجلست ترتقه ..
وجلس بجانبها .. يسمعها كلمات خفيفة من الغزل لم تسمعها من زوجها .. ولا من أى إنسان .. وكانت فى حاجة إلى مثل هذه الكلمات فاستراحت إليها ..
وعندما أصلحت القميص .. نهضت .. لتخرج .. وخرج معها ليوصلها إلى رأس الشارع الذى فيه بيتها ..
ولكن بعد خطوتين انطلقت صفارة الانذار مرة أخرى .. فأمسك بها من يدها وعادا إلى بيته ..
ودخلت فى هذه المرة طائعة مطمئنة .. وجلس بجانبها .. وأخذ يحادثها فى الظلام ويطرى جمالها وسحرها .. ولم تشعر به وهو يقترب منها .. وعندما اقترب لم تقاوم كثيرا فقد سلبها ارادتها ..
***
وفى الطريق إلى بيتها أخذت تقلب حقيبة يدها .. وتمنت لو أن الغلام كان قد سرقها لأنها فقدت ماهو أعز من الحقيبة .. وزلت لأول مرة فى حياتها .. وحاولت أن تنسى ما حدث .. وألا تعود تذكر هذه الليلة ..
***
ولكن بعد أسبوع واحد وجدت نفسها تشترى له قميصا جديدا وتذهب إلى بيته ..
========================= 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 164 بتاريخ 14/2/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
========================== 


   
 
 







































الليل والوحش

أعتدت أن أقضى شهر سبتمبر من كل عام فى بيت إبن عمى إسماعيل بضاحية المندرة .. وكان يقيم هناك إقامة دائمة .. وقد اخترت شهر سبتمبر لأنه يكون عادة أجمل الشهور فى الإسكندرية .. ففيه تخف درجة الرطوبة ويقل المصيفون .. ولأن إسماعيل يترك بيته فى هذا الشهر ويذهب إلى الريف ليجمع محصول أرضه .. فأنزل محله حتى يعود .. وأظل ناعما بالوحدة بعيدا عن مشاكل الأسرة .. وقيود الحياة الرتيبة .. وانطلق بكل حرية فأتخلص من الملابس الثقيلة .. ومن رباط الرقبة .. وأذهب إلى البحر فى نعل مكشوف .. وآكل كما اتفق كلما أحسست بالجوع ..
وكان البيت على يمين الشريط الحديدى المتجه إلى " أبو قير " وكان القطار هو المواصلة الوحيدة .. فلم تكن هناك سيارات على خط الكورنيش تسير أبعد من استانلى ..
وكان يبعد عن المحطة بمسيرة سبع دقائق يقطعها المرء .. بين الرمال .. وأشجار النخيل .. وكان بجواره بضعة منازل متناثرة فى غير نظام كأصابع اليد المفتوحة ..
وكان أقرب المنازل إلىّ منزل من طابقين وسط حديقة مزهرة .. وكنت أرى من شرفته رجلا فى سن التقاعد يجلس على كرسى طويل وعينه إلى البحر ..
وكان طويلا ممتلىء الجسم وله شارب مفتول وعينان نفاذتان ..
وكان فى بيته كلب ضخم .. وأحسبه رفيقه الوحيد .. إذا استثنينا الجناينى الذى كان يأتى فى الصباح .. ليسقى الحديقة ويشذب الشجر ثم يمضى لحاله ..
وكان من الواضح أن الرجل يعتنى بحديقته وبسور منزله .. كما يعنى بمظهره الخارجى وهندامه .. وخمنت أنه أحد موظفى القصر المحالين إلى المعاش .. فقد كان قصر المنتزة قريبا منا ..
وكنت بطبعى الريفى .. لا أحب الاختلاط بالناس فى المدن ولا أستطيب صحبتهم ولهذا صدفت عنه .. وأحسبه كان يحمل نفس الشعور ..
فمع أنه كان جارى وكنا نتقابل فى الطريق وفى البحر .. ولكننى لم أبادله كلمة أو تحية عابرة .. ولقد جئت إلى هذا المكان لأستريح من الثرثرة الفارغة وأرخى عضلات جسمى وخلايا عقلى ولهذا لم أغير النهج الذى رسمته ..
***
والمندرة ضاحية صغيرة ومن يرى القطاع القائم على الجانب الأيمن من الشريط يتصوره واحة .. فمنازله متناثرة ومعظمها من طابق واحد ..
وفى الليل تضاء المنطقة الغربية القريبة من ساحل البحر .. أما الشرقية فتغرق فى الظلام ..
ويصبح الكلب فى بيت حمدى لازمة تحتمها الظروف ..
وكان الرجل كما يبدو لى كثير المكوث فى البيت .. وكنت أراه فى الصباح على البحر جالسا على الرمل .. أو سابحا فى الماء ..
وكان موفور الصحة قوى الجسم يقفز .. ويثب وثبا كابن العشرين ..
والمندرة مع صغرها .. مصيف جميل للعائلات .. وتجد دائما بين المصيفين روابط وألفة الغرباء الذين حطوا الرحال فى مكان واحد .. ومن صفاتهم الجميلة احترام النساء عموما والعذارى على الأخص اللواتى يأخذن الحمام فى الصباح الباكر ويتبخترن فى المساء على الشاطىء الرملى ..
فنادرا ما تسمع هناك لفظة نابية تخرج من فم شاب لأنثى تسير فى الطريق .. والناس على الجملة كلهم طيبون ..
وبعد الغروب .. تقل الحركة على الساحل وفى الطريق .. وتضاء المصابيح الخافتة ويخيم السكون فى كل الأرجاء .. وتصبح المندرة الضاحية التى تنام ..
***
وبعد أسبوع واحد من إقامتى فيها حللت مشكلة الطعام .. فكنت آكل فى البيت ما أتسوقه من البقالين .. أو أركب القطار إلى الإسكندرية لأتعشى هناك وأحمل معى زاد يومين كاملين ..
وبقيت مشكلة الغسيل وتنظيف البيت .. وطرد الذباب وهو شىء رهيب ..
وحدثت الجناينى وكان يأتى فى صباح الخميس .. ليلاحظ .. الحديقة فقال لى أنه سيرسل لى فتاة من قريباته بعد ساعة ..
ولم تأت صفية بعد ساعة كما قال .. وإنما جاءت فى المساء .. وكانت الفتاة جميلة ويبدو عليها المسكنة فتركتها تدخل البيت فى الحال .. ونظفته ..
ولما شرعت فى الغسيل لم تجد وابور الجاز صالحا ..
فقلت لها :
ـ أبقى الغسيل إلى الصباح .. وخذى .. وألحقى القطار ..
وخرجت معها إلى الباب الخارجى وعلى الباب .. رأيت بيت جارى حمدى مضاء فخطر فى بالى خاطر جديد .. وقلت لها :
ـ أذهبى إلى هناك .. واستلفى الوابور .. وهذا أمر مألوف عند المصيفين ..
ـ لا أعرفهم ..
ـ لا يهم هذا .. أقرعى الباب والمسألة بسيطة ..
وذهبت تمشى على الرمال ..
وتركت لها الباب مفتوحا .. وعدت أتمدد .. على الكنبة .. وسمعت زومة الكلب .. ثم كف النباح .. فأدركت أنها دخلت بيت الرجل ..
***
وغابت .. وقدرت أن الرجل عازب مثلى ووابوره غير صالح .. أو فارغ من البترول .. وذهبت صفية لتملأه ..
ورحت فى غفوة متيقظة .. وسمعت صرخة مكتومة .. ولما نظرت من النافذة المطلة على الطريق لم أر شيئا .. سوى الظلام .. وأشجار النخيل قاتمة كالأشباح .. وبعد ثلاث دقائق دخلت صفية .. وكان ثوبها ممزقا عند الكتف الأيسر .. وأسنان الكلب فى لحمها ..
فجريت نحوها مذعورا ..
ـ آسف .. يا صفية .. لم أكن أعرف أن كلبه متوحش ..
وجلست على الأرض .. صامتة .. ودموعها تتكلم ..
ـ آسف يا صفية .. لم أكن أقدر هذا .. خذى زجاجة السبرتو وطهرى الجرح ..
وظلت تبكى بحرقة .. ولم تكن قد جاءت بالوابور الذى لاقت هذا العناء فى سبيله ..
فتألمت لأنى سببت لها كل هذا العذاب بسوء مشورتى ..
ومسحت الفتاة مكان الجرح .. ورتقت ثوبها الممزق .. ونهضت لتذهب فأعطيتها مصاريف القطار ..
فقالت :
ـ أرجوك .. أن ترافقنى إلى المحطة .. الظلام مخيف ..
ولفت ملاءتها السوداء على جسمها الممشوق .. ولما فتحنا الباب استقبلنا النسيم الممزوج بأنفاس البحر ..
***
وفى الصباح .. نقرت صفية على نافذة الغرفة القبلية .. ولم تأت من الباب .. فأدركت أنها غيرت الطريق لتبتعد عن الكلب ..
وقلت لها قبل أن تبدأ فى عمل البيت :
ـ أخشى أن يكون الكلب مسعورا .. ولا بد أن أذهب بك إلى المستشفى ..
ـ هذه مسألة .. مرت .. ولا تشغل نفسك بها ..
ـ لا أحب أن أكون سببا فى ..
وقاطعتنى :
ـ لقد جئت لتصيف .. لا لشغل نفسك بى .. أين الوابور .. السمكرى فتح ..
فسكت ..
وشمرت عن ساعدها وهى تتناول الوابور .. وانتصبت .. وطوت الملاءة على جسمها نصف طية .. ونظرت إلىّ نظرة متكسرة .. وبدت بنت بحرى الأصيلة التى تتغذى بشرتها بالسمك والمحار ..
وقلت لها وهى تفتح الباب :
ـ ابتعدى عن الكلب ..
ـ إذا هجم علىّ مرة أخرى .. سأدع مرسى يقتله ..
فأدركت أن مرسى أخوها أو خطيبها ..
وظلت طوال الأيام التى تلت .. تلح علىّ بعد أن تفرغ من عملها أن أرافقها إلى المحطة ..
***
ولا أنكر أن هذه العذراء الفقيرة الرقيقة الطباع .. روحت عن نفسى فى تلك الدقائق القليلة التى كنت أقضيها معها فى الطريق أو فى انتظار القطار ..
وكان صوتها الحلو هو الذى يحرك دائما المشاعر الطيبة فى نفسى ويجعلها حية متيقظة .. واحتفظت للفتاة بالطهارة التى وجدتها عليها ..
فلم أدنسها حتى بلمسة من أصابعى .. وكنت أضع أمام نظرى أمرا ذا بال وهو أن هذا الجناينى الفقير جاءنى بزهرة جميلة من قريباته وائتمننى عليها وجعلها وديعة عندى .. فيجب أن أردها له أجمل وأنضر مما كانت ..
***
وكان من عادتى أن أنهض مبكرا .. وكنت أذهب إلى البحر مع خيوط الشمس الأولى .. وأغطس غطستين .. ثم أرتدى ملابسى وأجلس على الصخرة .. أرقب السفن الصغيرة وهى منطلقة فى عرض البحر ..
ويحدث فى هذه اللحظة .. أن تأتى سيدة .. وحيدة .. وتخلع الروب .. وتنزل وهى خائفة إلى الماء .. ثم تخرج وتنفض شعرها ..
وبعد أن تغسل جسمها بالماء العذب .. تفرش الفوطة على الرمال وتجلس عليها لتمشط شعرها .. وسواء أشاهدتنى من بعيد أم لم تشاهدنى فإنها كانت لا تغير وضعها .. ولم أكن أقطع عليها سلسلة أحلامها أبدا .. ثم تصبح السيدة الوحيدة سربا من الحسان .. ويأتى بعد ذلك الأطفال والرجال ويكثر المرح والبهجة .. وفى تلك اللحظة كنت أدرك معنى الحياة .. وقيمة الجمال المحيط بى ..
وكنت وأنا أقذف الكرة للأطفال أقرأ فى وجوههم النضرة .. أمانى الغد والمستقبل الأكثر اشراقا وبهجة ..
***
وعندما تحمى الشمس أترك البحر .. وأذهب إلى الواحة وهناك أجلس تحت النخيل .. ويكون بيت حمدى فى هذه الساعة مغلقا كله .. ولا أسمع حتى صوت الكلب ..
ورأيت وأنا أرتد ببصرى عن هذا البيت فتاة تعبر الطريق .. وكانت ذاهبة إلى البحر .. وشعرت بهزة .. وأنا أراها .. لم أكن قد شاهدتها من قبل أبدا .. كانت جديدة ..
ونظرت إلى أبواب البيوت المجاورة .. لأتبين الباب المفتوح الذى خرجت منه .. وبعد طول بحث لم أستطع أن اميزه ..
ثم رأيتها فى اليوم التالى فى البكور خارجة من البحر وحدها ولم يكن هناك سواها .. وبعد ساعة جلست مع أسرتها تحت المظلة ..
وكنت ذاهبا عصر يوم إلى الإسكندرية فشاهدتها وأنا أنحدر إلى المحطة .. تدخل البيت الثالث فى الصف الذى فيه بيتى ..
***
ورجعت فى آخر قطار .. ولما خرجت من نطاق المحطة كنت الراكب الوحيد ..
وكان الظلام شديدا .. وسمعت وأنا أصعد التل الرملى إلى بيتى .. نفس الصرخة المكتومة .. ثم هوهوة الكلب .. وانقطع الصوتان معا ..
ومرق أمام نظرى شىء كالسهم قريبا من جدار الحديقة ..
فوقفت نصف دقيقة .. ثم دخلت بيتى وأحكمت إغلاق الباب ..
***
وفى ضحى اليوم التالى .. رأيت الناس يجرون على الشاطىء من ناحية المنتزة ..
وجريت معهم بعد أن سمعت كلمة " غريق "  ..
ووقفت مسمرا على الشط ورجلاى تغوصان فى الماء .. ورأيتهم يحملون الفتاة التى كانت فتنة للناظرين بالأمس ..
ووضعوها على الشاطىء .. وعملوا لها التنفس .. وحاولوا أن يردوا لها الحياة ولكن هيهات كانت قد انتهت منذ ربع ساعة ..
ورأيت وأنا أقف على رأسها عضة الكلب فى الكتف الأيسر .. نفس العضة التى رأيت مثلها فى جسم صفية ..
فارتعش بدنى ..
وسمعت الناس تقول أن الفتاة أغرقت نفسها ..
وعندما حملوها .. جلست أنبش بأظافرى فى الأرض ..
***
ولما جاءت صفية فى صباح الإثنين حدثتنى بخبر الفتاة التى أغرقت نفسها .. ولم أحدثها عن عضة الكلب التى رأيتها فى جسم الفتاة بعد أن أخرجوها من البحر حتى لا أخيفها ..
وبكت صفية فقد رأت الفتاة مثلى وهى تتهادى على الرمال وأحبتها لرقتها وجمالها الفتان ..
وقالت لى أن بيت الفتاة أغلق ورحل أهلها وعاد الحزن والظلام يخيمان على الشارع .. فشعرت بالأسى ..
وكان وجه صفية الصبوح لا يزال هو النور الوحيد الذى يجذبنى فى هذا الظلام ..
وأحست بأنى مسافر فى صباح الغد .. فأخذت تجمع ملابسى وحاجاتى .. وتعد البيت لاستقبال صاحبه ..
وقلت لها بعد أن رتبت جميع الأشياء وشعرت برغبة فى أن أعانقها لأشكرها ..
ـ عندما تتزوجين يا صفية .. تعالى أنت وزوجك لتقضيا عندى أياما فى الريف ..
ـ أعدك بهذه الزيارة بشرط أن تكون قد تزوجت قبلى .. لأرى عروسك ..
وضحكت ..
وخرجت معها إلى المحطة ..
وقلت وأنا أرى الظلام يخيم على بيت حمدى .. ولا حس للكلب :
ـ إن حمدى .. كما يلوح لى مسافر وأخذ معه كلبه .. وبقى على القطار دقيقتان .. فأجرى لتلحقيه ..
وتناولت يدى .. ومضت ..
***
وقبل أن أدخل البيت سمعت صرخة .. وكانت فى هذه المرة حادة ومفزعة ..
فارتددت عن الطريق أجرى ..
وتحت التل .. رأيت صفية وكانت بين الحياة والموت فارتمت على صدرى .. وكان ثوبها قد تمزق فى نفس الموضع من الكتف وبجسمها نفس العضة ..
وكان هناك شبح يجرى بسرعة شديدة .. ورآه الخفير وأطلق عليه عدة طلقات ثم خيم الظلام والسكون من جديد ..
***
وفى الصباح وجد الناس حمدى مكوما على الرمال بين النخيل .. وكانت إصابته فى مقتل .. ولكن جسمه القوى ظل يقاوم فسار أكثر من مائتى متر على الرمل ثم سقط .. ووجدوا يده قابضة فى استماتة على قطعة من القماش .. وكانت هى الجزء الممزق من ثوب صفية ..
========================= 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 165 بتاريخ 21/2/1955 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=======================    

 



الحقيبــة
           
  
       دخلنا فى عاصفة عاتية قبل أن نبلغ طوكيو ..
      وأخذت الطائرة الضخمة تتأرجح وتلعب بها الأنوار ..
      وكان بجوارى راكب من سنغافورة .. لم يستطع أن يصمد فى كرسيه فأخذه القىء .. وخشيت أن تصيبنى عدواه .. بعد أن أصبحت المضيفات الثلاث عاجزات عن إسعاف الركاب لكثرة من أصيب منهم بالدوار فى ساعة واحدة ..
      فتحركت من مكانى إلى أربعة صفوف أمامية فى الدرجة السياحية .. كانت خالية تماما من الركاب ..
     واسترخيت على الكرسى الطويل .. معلقا عينى بعد أن أغلقت أزرار المصابيح المضاءة فوق رأسى .. وزر مكيف الهواء أيضا .. فقد كنت أود أن أنام .. وأغيب عن وعيى حتى تنجلى العاصفة .. ولقد أفلحت فى هذه المحاولة فعلا وانقضت فترة طويلة وأنا لا أحس بشىء مما يجرى حولى .. ثم فتحت عينى فوجدت المكان قد شغل براكب آخر .. ولعله آثر أن يفعل كما فعلت .. ولكنه لم يكن فى مثل حالى ..كان متيقظا تماما وليس على وجهه أى أثر للإعياء ..
     ولما رآنى أفتح عينى وأحدق فيه برهة قال بإنجليزية فيها لكنة .. لقد مرت العاصفة ..
     وأشار إلى اللافتة المضيئة التى تحمل فى مضمونها هذا النبأ .. والتى تعلن فك الحزام الذى يربطنا بالكرسى ..
     وقدرت من جلسة الرجل وملامح وجهه أنه صينى من هونج كونج أو تاجر من أهل سيام .. ذاهب فى مهمة إلى طوكيو .. ثم ظهر لى من حديثه أنه يابانى من سكان طوكيو نفسها وأنه كان فى مهمة فى الخارج وعاد إلى وطنه .
     ولما علم أننى مصرى فى رحلة سياحية إلى طوكيو .. تهلل وجهه .. وقال :
ـ لقد تخلصتم من الاحتلال الإنجليزى بضربة قوية .. وسنفعل مثلها لنتخلص من الأمريكان ..
ـ إن شعبكم قوى ولا يمكن أن يرضى بأى احتلال ..
ـ لقد فرضته علينا الحرب .. وهذا أشد شر فيها ..
وانطلقنا فى فنون الأحاديث .. وكلما مرت دقيقة ازداد الرجـل مودة لى والفة .. وطلب من المضيفة كأسين من النبيذ ..
     ثم أخذ يقص علىّ سيرة حياته ويفتح لى من طوايا نفسه .. حتى علمت منه أنه عضو فى جمعية لمقاومة الاحتلال الأمريكى لليابان ، وأنه كان فى مهمة خطيرة ويحمل معه فى هذه اللحظة حقيبة صغيرة .. وفيها أشياء لو ضبطت معه سيعدم ..
     وسألته :
ـ أين هى ؟
ـ هناك على الرف ..
وأردف ببساطة :
ـ هل يمكن أن تحملها عنى .. إنى أنمر فيك مذ ركبنا الطائرة .. ولن يفتشوك فى الجمرك ولن يفتحوا حقائبك اطلاقا ..
ـ وإذا فتحوها..
ـ لن يمسوا منك شعرة .. لنا وسائلنا ..
ـ ما دامت الحقيبة تساعد على انهاء الاحتلال فى اليابان .. فإنى احملها كجندى متطوع ..
فتهلل وجهه أكثر .. وقال بابتهاج :
ـ هذا ما قدرته .. إنك باسل ..
     وأعطانى بطاقة فيها العنوان الذى أحمل اليه الحقيبة .. إذا حدث شىء يمنعنا من المقابلة فى بوفيه المطار .. بعد أن تتم جميع الإجراءات .. وطلب كأسين من النبيذ ..
     وناولنى الحقيبة ولم تكن عليها أية بطاقة فوضعتها بجانبى ببساطة ..
     والواقع أننى كنت أتصور أن المسألة سهلة .. ولكن لما هبطت الطائرة على الأرض وأمسكت الحقيبة فى يدى شعرت برجفة هزت كيانى كله .. ولم تكن ثقيلة ولكننى أحسست بها تخلع كتفى ..
     وكان معى حقيبة أكبر منها على الرف ومعطف .. فاضطررت أن أرتدى المعطف مع أنه لم يكن هناك برودة .. لأستطيع أن أحمل الحقيبتين ..
     ونزل مسيو كوجا أمامى على سلم الطائرة .. ونزلت وراءه .. ولكنه اختفى عن نظرى ..ثم ظهر مرة أخرى فى صالة المطار الكبرى عندما اجتمع جميع الركاب .. وأخذ موظف فى المطار .. ينادى الركاب بأسمائهم وشعرت بالاضطراب الشديد وأنا واقف وحدى .. وقلت لنفسى من يدرى .. لعل الرجل خدعنى بالحديث الوطنى وأشعل فىّ النخوة .. وهو فى الواقع ليس أكثر من مهرب وليس فى الحقيبة سوى مهربات جمركية .. عملة مهربة أو جواهر  ..وإذا ضبطت ستكون فضيحة لى .. لقد البسنى الرجل التهمة بكل بساطة وهرب ..
     وظللت فى دوامة عاصفة من الخواطر أكثر من ثلث ساعة .. وأنا جـالس فى صالة المطار ..
     ورأيت أن حركة انجاز أوراق الركاب تتم ببطء ودقة .. مع أننا لم ندخل منطقة الجمرك بعد .. فكيف إذا دخلناها .. وندمت على تسرعى .. وبحثت عن الرجل لأرد له الحقيبة ولكننى لم أجده فقررت أن أتركها .. بجانب الكرسى ..
     ولكن عندما دخلت من باب الجوازات كانت فى يدى وتركت الأمر للمقادير تفعل بى ما تشاء ..
     ولما دخلت المنطقة الجمركية بعد إجراءات طويلة معقدة .. وجدت حقائبى كلها قد أخرجت من الطائرة ووضعت داخل الحاجز الجمركى مع حقائب الركاب ..
     وكان موظفو الجمارك فى الناحية المقابلة لى يفتشون حقائب أخرى .. ولاحظت أنهم يفتشون كل حقيبة تفتيشا دقيقا ..
     وجاء دورنا .. رفعوا حقائبنا عن الأرض ووضعوها على الطاولة المستديرة .. ولكننى بقيت فى مكانى لم أتحرك .. ظللت بعيدا وعقلى يشتغل بسرعة ..
     وعندما جاء فوج من الأجانب وقدرت أن فيهم بعض الأمريكان وقفت فى زحمتهم وحقائبى كلها وسط حقائبهم ولاحظت أنهم يفتحون جميع الحقائب ويفتشونها بدقة ويسألون دائما عن السجائر والويسكى ..
     وهنا أخرجت المفاتيح من جيبى وفتحت جميع الحقائب بما فيها حقيبتى الصغيرة التى كانت فى يدى .. وأبقيت حقيبة الرجـل تحت الحاجز الخشبى بين رجلى ..
     وجاء الموظف وفتش حقيبة من حقائبى فقط ثم شغل بمشادة بين زميل له وأحد الركاب وكان قد وجد فى حقيبته سجائر لم يخطر عنها .. وعلا صياح الراكب وتجمع حوله الركاب .. ولما عاد الموظف إلى مكانه .. نظر إلى حقائبى المفتوحة ..
      وقال :
ـ يمكنك أن تغلقها ..
     ورأيته قد استدار ليختم مشط سجائر وجده فى بعض الحقائب .. وأخذت أغلق حقائبى .. وأنا أرقبه .. رفعت حقيبة الرجل ووضعتها وسط الحقائب المفتشة دون أن يلحظ ذلك أحد .. وقفز قلبى وأنا أفعل ذلك .. وتصبب العرق ..
     ولكن لما وجدت أن أحدا لم يشاهد هذه الحركة طرت من الفرحة ..
     وسألنى الرجل عندما واجهنى مرة أخرى ..
ـ كم حقيبة معك .. ؟
ـ سبعة ..
ـ وفتشت كلها .. ؟
ـ أجل ..
     ـ وليــس مـعك سجائر .. ولا ويسكى .. ولا أى شىء ممنوع ..؟  
ـ إطلاقا ..
     وكان فى أثناء كلامه يضع العلامة على كل حقيبة بالطباشير ثم توقف .. وكأنه ارتاب فى حقيبة الرجل .. فنظر اليها قليلا بامعان ..
      ثم سألنى :
ـ وهذه هل فتشت ..؟
ـ أجل .. هل أفتحها مرة أخرى ..؟
ـ أظن أنه لا داعى ..
ووضع العلامة على الحقيبة بالطباشير ..
حدث هذا فى سرعة رهيبة .. وكأنما فك حبل المشنقة عن عنقى ..
وتركت الموظف يشير بيده للعمال الذين وضعوا الحقائب كلها على السلم الكهربى .. ليذهب بها سريعا إلى خارج حاجز الجمرك ..
                              ***                     
     واتجهت إلى السلم الذى سيقودنى إلى الخارج وأنا شاعر بفرحـة كبرى .. وقبل أن أبلغ آخر درجة .. رأيت كوجا يسير أمامى .. ولكنه لم يكن وحده كان بجانبه اثنان من البوليس الحربى الأمريكى وجنديان يابانيان وكانوا جميعا يحملون المدافع الرشاشة .. وأدركت أنه وقع فى أيديهم ..
     وأسرعت خلفهم .. حتى رأيتهم يدخلونه سيارة مغلقة .. ومضوا به سريعا ..
     وشعرت بشىء ثقيل يضغط على قلبى ويكتم أنفاسى .. وعدت إلى الداخل وأنا أخرج من قاعة وأدخل أخرى .. كأنى أدور فى بيت جحا .. حتى وجدت نفسى فى القاعة الكبرى المعدة لراحة المسافرين ..
     وجلست على كرسى جلدى وأغلقت عينى .. نصف دقيقة ولما فتحتها كنت أنظر بقوة إلى اللوحة المضيئة لمدينة طوكيو والسهام النارية التى تنطلق منها إلى جميع أنحاء العالم ..
     وأخذت أفكر فيما أفعل بالحقيبة بعد أن قبض على صـاحبها بسرعة فائقة .. ورأيت أن ألحق سيارة شركة الطيران قبل أن تتحرك من المطار .. بدلا من ركوب تاكسى إلى الفندق ..
     وأخرج عمال الشركة حقائبى ووضعوها فى السيارة .. وحملت حقيبة الرجل فى يدى ودخلنا فى المدينة الحالمة ذات الأنوار على الجانبين والسيارات تنطلق كالسهام ..
     وأنسانى جمال المدينة .. وجمال النساء فى الكومينو .. ونظافة الشوارع .. وبهجتها كل ما يتعلق بالحقيبة .. واخترت غرفة فى الدور السابع فى الفندق لأكون بعيدا عن زحمة النـزلاء الذين يتركزون عادة فى الأدوار السفلى .. ولأبعد أيضا عن ضجيج المدينة التى تظل ساهرة إلى الصباح ..
    وتعشيت فى الفندق وخرجت إلى المدينة أمشى كما أتفق مستعرضا واجهة الحوانيت ..
     ولم يكن الجو شديد البرودة .. وكنت أرتدى المعطف .. وقد ساعدنى هذا على أن أتجول أكثر وأكثر .. وكان عقلى فى الواقع يشتغل وأنا لا أدرى ويحاول أن يبعدنى عن مكان الحقيبة ..
     وجذبتنى الأنوار البراقة فى ملهى على شكل سفينة قريبا من محطة شمباسى فاتجهت نحوه وبجوار كشك التذاكر وجدت ثلاث فتيات يرتدين فساتين سواريه وصدرهن العارى يبرز كل مفاتنهن ..وتطلعن إلى وجهى .. ووجدت واحدة منهن تعرف الإنجليزية فشرحت لى نظام السفينة ..   
     وحجزت " كمرة " بألفين فى الدرجة الأولى .. وصعدت مع الفتاة إلى الأدوار العليا ..وفى ممشى السفينة الدائرى .. فتحت لى بابا صغيرا .. وأصبحنا وحيدين فى غرفة صغيرة أنيقة على شكل الكاميرا فى عابرات المحيط ..
     وكان لابد أن نشرب شيئا وكل كأس بألفين ..
     وسألت الفتاة عن الشراب الذى ترغبه فرفضت وقالت إنه لاداعى لأن تشرب هى .. وتحت الحاحى قبلت أخيرا .. وطلبنا كأسين من الويسكى .. ولاحظت ساسا بعد أن فرغنا الكأسين .. أنى شارد الذهن ..
      فسألتنى :
ـ ما بك ..؟
ـ لا شىء ..
ـ ألا أروقك ..؟
ـ بالعكس أنت فتنة فى النساء ..
     وكان الموقف الطبيعى يقتضينى أن أعانقها وأشرب من رحيـق شفتيها .. ولكننى جلست جامدا ولم تبد منى أية حركة .. 
    ولما حركتنى بسؤالها .. اكتفيت بأن مددت ذراعى الأيمن اليها وطوقتها .. وأخذت أمسح بيدى على ذراعيها .. فاستراحت إلى هذه الحركة وأخذت تديم النظر إلى وجهى الجامد .. فابتسمت وطلبت من الساقية كأسين آخرين..
     وفى خلال الشراب حدثتها بصراحة عن الحقيبة وما حدث من القبض على صاحبها فى المطار ..
     ورأيت سحنتها تتغير .. كأنما أصابتها رجفة .. ثم عادت إلى امتلاك أعصابها ..
      وسألتنى :
ـ فى أى فندق نزلت ..؟
ـ يوكاهاما .. غرفة 703
ـ إنه بعيد جدا عن هنا ..
ـ نصف ساعة بالسيارة ..
ـ لا .. أكثر من ذلك .. اذهب فى الحال وابعد هذه الحقيبة عن غرفتك ..
ـ وأين أذهب بها ..؟
     ـ أترى هذه الترعة .. القها فيها .. أو فى أى مكان من السهل أن تتخلص منها .. لأن هذا يسبب مشكلة ..
ـ ربما يكون الرجل مهربا .. وفيها جواهر
فضحكت .. وقالت 
ـ لا داعى لأن تمزح .. أسرع وتخلص منها ..
ـ ماذا تصورت فيها ..
ـ ديناميت .. خرائط .. تصور معسكرات الأمريكان وأماكن احتلالهم فى طوكيو وغيرها .. أنت سائح مسكين .. وستعدم دون ذنب ..
فارتجفت ..
وسلمت عليها وهرولت إلى الخارج ..
                            ***    
          وركبت تاكسى إلى الفندق وقال لى موظف الاستقبال بأدب زائد .. وأنا أتناول منه المفتاح ..
ـ هل يمكن .. أن تنتظر لحظة يا سيد بدر الدين ..
ـ لماذا ..؟
وقد أحسست بالعاصفة تقترب ..
    ـ الظاهر أنه حدث سوء تفاهم منذ القبض على كوجا فى المطــار .. يريدون فقط أن يسألوا الركاب الذين كانوا معه ..
ـ إن هذا حماقة ..
ـ إنهم حمقى هؤلاء الأمريكان ..
      وقلت لنفسى أننى أكثر حماقة لأننى مراقب منذ غادرت المطار والعيون ورائى فى كل خطوة .. وأنا لا أدرى ..
     وسألته ببلاهة ..
ـ وكيف عرفوا مكانى ..؟
فقال ببساطة :
     ـ إن شـركة الطيران .. وزعتكم على ثلاث فنادق معروفة ..
    وأدركت مبلغ حماقتى لأنى ركبت عربة الشركة .. فطوكيو مدينة ضخمة كالمحيط وكنت أستطيع أن أغوص فى أعماقها ولا يعرف أحد مكانى لو لم أركب عربة الشركة وأجعل الخيوط فى أيديهم ..

     ولمحت ثلاثة رجال فى ملابس مدنية يتقدمون نحوى ببطء .. وكنت أود أن أمرق كالسهم من الباب الدوار وانطلق بأقصى سرعة ولكننى استبشعت هذه الحركة فى فندق كبير كهذا ..

وقال لى أطولهم وهو الأمريكى حتما :
      ـ هل يمكن أن نلقى نظرة على غرفتك ..؟
     فاستبسلت وسألته بصوت قوى ضخم فيه لهجة الاستنكار ..
ـ لماذا ..؟
ـ إن هناك حقيبة مغلوطة فلتت من المطار ..
وفى تلك اللحظة كان من السهل علىّ جدا أن أقتل أى واحد منهم لو كان معى سلاح ..
ومشينا صامتين إلى المصعد .. وفى الطرقة الطويلة تقدمتهم إلى غرفتى .. وأعطيت فتاة لطيفة من عاملات الفنـدق المفتاح لتفتح لهم الباب .. لأتفادى رعشة يدى وأنا أدير القفل ..
وفتحت الفتاة الباب ودخلوا ودخلت معهم وأنا أحس بقلبى قد توقف عن الخفقان ..وعندما توسطت الغرفة انتابنى احساس من البلادة وفقدان الحساسية عجبت له وأدركت أنه نفس الاحساس الذى ينتاب من يصعد سلم المشنقة ..
ولكن عندما وقع نظرى على الحقائب عاد إلى الإحساس بالموقف أشد وأعظم واضطربت جدا .. ثم كادت أن تفلت من فمى صرخة مدوية صادرة من الأعماق .. فقد اختفت حقيبة الرجل من الموضع الذى وضعتها فيه .. وبحثوا فى كل ركن فلم يجدوا سوى حقائبى .. وفتحتها جميعا وجعلتها تحت أنظارهم وحيوا وانصرفوا ..
وودعتهم على باب الغرفة مزهوا ..
وجلست بعد أن ذهبوا أستريح وأشرب القهوة وأنا أفكر فى الملاك الذى طار بالحقيبة فى اللحظة الحاسمة ..
ونمت نوما عميقا ..
                          ***        
وفى الصباح خرجت أتجول فى المدينة وقد كف ذهنى عن التفكير فى اختفاء الحقيبة وقد عللته بأى سبب ..ربما تكون ادارة الفندق قد عرفت الحقيبة لأنها الوحيدة التى لاتحمل بطاقتى فانتزعتها من الحقائب بسهولة وخلصتنى من شرها ..
ونسيت الأمر كلية ..
                             ***   
وفى الليل ذهبت إلى ملهى السفينة .. لأرى ساسا .. وقالت وأنا داخل عليها وقد أشرق وجهها ..
ـ جئت مرة أخرى ..
ـ بالطبع ..
ـ لماذا ..؟
ـ لأنى أحبك ..
ـ أوه ما أكثر ما سمعت هذا الكلام .. ولماذا تحبنى ..
ـ لأنك جميلة ..
ـ ما أكثر الجميلات فى طوكيو ..
     ـ الواقع أننى عاجز عن التعبير .. لايوجـد سبب ملموس لحبى .. هناك ما هو أعظم من الجمال ومن الصفاء اللذين فيك ..
ـ هذا أحسن .. والمهم هل عثروا على الحقيبة ..؟
ـ ابدا .. لقد اختفت من الغرفة ..
ـ اختفت .. ؟
      وضحكت بخبث .. وعلمت منها ما حدث .. خشيت ألا أصل إلى الفندق فى الوقت المناسب .. فاتصلت فى الحال تليفونيا بالطابق السابع الذى فيه غرفتى .. وكانت تعرف هناك فتاة من العاملات تدعى نيدا وحدثتها بأمر الحقيبة وطلبت منها أن تخرجها من الغرفة فى الحال .. وكان من السهل أن تستدل نيدا على الحقيبة لأنها الحقيبة الوحيدة التى لا تحمل بطاقة وعليها كتابة باليابانية فأخرجتها فى الحال ..
ـ وأين هى الحقيبة الآن ..؟
ـ فى مكان ما ..
ـ هل عرفت أنهم فتشوا غرفتى .. ؟
ـ أجل .. وكنت أقدر هذا ولذلك أخفيت الحقيبة ..
ـ إن هذا عمل عظيم لن أنساه لك ..
ـ لاداعى لمثل هذا الكلام ..
ونظرت إلىّ فاحتضنتها .. وأنا أقول ..
ـ لابد أن أحمـــل الحقيبة إلى العنوان الذى تركه لى الرجل ..
         ـ ليس من الضرورى الآن انتظر اسبوعا ..
ـ لابد من هذا سريعا ..
ـ انتظر اسبوعا .. وسأذهب معك ..
ووافقتها على ذلك ..
***       
     ومر اسبوع .. واتفقنا على أن نتقابل فى محطة من محطات المترو الذى تحت الأرض .. وتكون معها الحقيبة .. ونركب من هناك إلى المكان الذى عينه لىّ الرجل ..
     وفى الموعد المحدد انتظرتها .. وجاءت رشيقة جميلة وبيدها الحقيبة وأخذتها منها .. وذهبنا نضع بضعة ينات فى الآلة الأتوماتيكية .. وتناولت نيدا التذكرتين ..
     وفى أثناء دورانى فى فناء المحطة المسقوف رأيت رجلا عرفته من عينه وكان هو كوجا بعينه وكان يرتدى معطفا سميكا ويضع على عينيه منظارا أسود ..وبيده عصا وعلى رأسه قبعة عريضة .. وكان مشوش الهندام غير حليق على غير ما عهدته فى الطائرة ..
     وبحركة سريعة تناول منى الحقيبة وشد على يدى وهو يقول :
ـ كنت أعرف أنك ستأتى بها .. إنك شجاع .. لقد أعدت إلى قلبى .. وأقبل المترو .. فأخذها ومضى ..
                         ***   
          وقلت لساسا وأنا أصعد بها سلم المحطة ..
ـ والآن أين نذهب ..؟
ـ كما تحب ..
ـ هل تذهبين معى إلى الفندق لنشكر نيدا على الأقل .. ؟
ـ فكرة رائعة ..
وفى شارع جنـزا رأيت فى كشك صغير صورة كوجا .. فى صحف المساء وكان تحتها نبأ هروب بخط كبير ..
ولما رأت ساسا الصورة ضحكت .. وضغطت على يدى ..
===============================    
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 684 بتاريخ 28|4|1958 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=======================================



































الماس


     كان الأطفال يلعبون كعادتهم فى الميدان الفسيح .. ويجرون إلى المنتزة العام يقطفون الأزهار ويعبثون بالحشائش .. ويقفزون فوق خرطوم المياة الذى يسقى الحديقة .. وكان الترام يسير على بعد أمتار قليلة منهم يحمل الركاب إلى البيت .. وكانت السيارات تنطلق فى الشوارع كالسهام .. وكان الناس يشترون من الحوانيت .. والنساء يتبخترن فى الفساتين المعطرة .. والجوارب النيلون ..
     وفجأة دوت صفارة الإنذار ..
     ولما كانت الشمس لاتزال طالعة .. فإن شيئا لم يتغير فى المدينة .. ظلت الحركة كما هى .. فقط أخذ الناس يتطلعون من حين إلى حين إلى السماء .. وحتى الأطفال ظلوا فى مكانهم من المنتزة .. ولكن بعد ثلث الساعة انطلقت المدافع بقوة .. وأخذت الطائرات المغيرة تلقى القنابل المدمرة والحارقة على السكان الآمنين .. فجرى الناس من الشارع إلى البيوت والمخابىء ..
     وفى صباح اليوم التالى .. أخذ السكان يرحلون الأطفال والنساء .. فأقفر المنتزة .. من ملائكته الأطهار .. وفى الليل اطفئت المصابيح وخيم الظلام ..
     وكان " خليل " بوابا لإحدى العمارات الكبيرة التى نزلت بجوارها القنابل ..
     وكانت السيدة " علية " من السكان الذين بقوا فى العمارة .. وكان زوجها قد ذهب إلى ميدان القتال ..
     ورفضت " علية " أن تسافر إلى الريف .. لتكون قريبة من زوجها .. وتعرف أخباره ..
     وفى بداية المعركة .. كانت تسمع أخباره يوميا .. ثم انقطعت الأخبار .. وانتابتها الهواجس .. وأخذ القلق .. يدمر أعصابها .. ولكنها عادت وطمأنت نفسها .. وأخذت تضم طفلها إلى صدرها وتضغط على عظامه وكأنها تحتضن والده ..
     وفى مساء يوم سمعت همسا من الناس فى الشارع .. فعاودها الخوف والقلق ..
     ولم يكن لها أهل فى المدينة .. وكان من تزورهن من صديقاتها قد رحلن بسبب الغارات .. وكانت عندها خادمة صغيرة .. تؤنسها .. فجاءت أم الفتاة ذات صباح من الجيزة لتسلم عليها .. وأخذت ابنتها وهى خارجة على أن تعود الفتاة بعد أن تركب الأم الترام ولكن الفتاة لم تعد ..
     وأدركت " علية " .. أن الأم جاءت لتأخذ ابنتها .. خوفا من الغارات .. وأصبحت علية وحيدة فى الطابق كله هى وطفلها الرضيع ..
     وكانت فى أول الأمر .. تظل فى شقتها بعد صفارة الإنذار .. ثم أصبحت تخاف من الجدران المظلمة .. الصامتة .. فأخذت تنزل إلى الطابق الأرضى .. فتجد البواب وثلاثة من السكان .. يتحدثون عن الغارات وطائرات الأعداء التى تسقط كالذباب ..
     وكان الناس يتحدثون فى حماسة .. وكل منهم يروى قصة فذة من قصص البطولة لشعب يقاتل وحده ثلاث دول مجتمعة ..
     وكان كل رجل من الموجودين فى العمارة يتطوع لخدمة " علية " .. ويخرج والطائرات تلقى القنابل ليأتى للطفل باللبن ..
     وعندما تنتهى الغارة .. كانت تصعد حاملة الطفل إلى شقتها ..
     ولما كانت الغارات متصلة .. فقد تعبت من الطلوع والنزول .. وقررت أن تبقى فى الدور العلوى .. مهما كانت الأحوال .. وكانت تخاف على الطفل .. فتضع يديها فى أذنيه حتى لا تسمعه صوت القنابل ..
     ولما اشتدت الغارات ورأت نوافذ بيتها تصفر والسقف يهتز .. تصورت أن كل شىء سيسقط على رأسها .. فأخذت تخرج بالطفل إلى الممر الخارجى وتظل تروح وتجىء .. فى الظلام .. وحولها أبواب الشقق المغلقة الصامتة ..
     ورأت أنها إذا ماتت ومعها الطفل فى هذا المكان فلن يحس بهما أحد .. وجعلها هذا الخاطر تغير مكانها .. فأخذت تنزل إلى الدور الأرضى كلما سمعت صفارة الإنذار وكان يسكن بجوار السلم مباشرة شاب مصرى يعمل فى أحد المحال التجارية وكان أعزب ويقيم وحده فى أصغر الشقق فى العمارة .. ومنذ بداية الحرب والغارات .. وهو يرى " علية " واقفة مع البواب فى المدخل .. أو ملتصقة بالجدار .. قريبا من بابه وعلى ذراعها الطفل ..
     وكان ينظر إليها فى ألم ..
     ولما طال وقوفها أخرج لها الشاب كرسيا من شقته .. فجلست وهى تشكره بصوت خافت ..
     ولما امتدت الغارات إلى منتصف الليل .. ذات مرة .. عرض عليها الشاب أن تستريح فى شقته .. حتى لا يتعرض الغلام للبرد ..
     ولخوفها على الطفل .. دخلت واستراحت فى الداخل ..
     وفى كل ليلة كانت تدخل شقة هذا الشاب .. وتريح طفلها ..
     وكانت تلاحظ أن الشاب .. بعد أن يدخلها ويدعها فى أمان .. ويقدم للرضيع الطعام .. والغطاء .. ينسحب إلى الخارج ..
     وتكرر منه هذا العمل فتألمت وشعرت بالخجل .. وقالت له .. ذات ليلة وهو يدخلها :
     ـ إذا خرجت .. لن أبقى فى بيتك .. تحمينا وتموت أنت .. لا ..
     ولكنه كان يرفض .. ويحاورها ويداورها .. حتى تجلس فيخرج ويغلق عليها الباب .. ويقف هو فى الخارج ..
     وكانت تدرك .. أن البواب .. وهذا الشاب الذى تستريح فى شقته .. ومن بقى من الرجال فى العمارة .. يقفون هناك فى المدخل .. ليحموها هى ..
     وشعرت بارتياح كبير .. وحتى الرجال الذين كانوا يغازلونها قبل الحرب .. بنظراتهم .. أصبحوا ينظرون إليها الآن نظرة أخرى .. ويعاملونها كأخت .. كانت تقابلهم فى الظلام .. صاعدة السلم و نازلة منه .. وكان بعضهم يمسك بيدها .. ويعينها على أن تهبط .. حتى لا تسقط بالغلام ..
     كان الجميع يعاملونها بإنسانية وشهامة الرجل مع امرأة وحيدة ..
     وذات ليلة .. سقطت قنبلة فى الشارع المجاور .. فذعر السكان .. ووضعت " علية " غلامها على صدرها .. ومصاغها وحليها فى حقيبة صغيرة وأمسكت بها ..
     وقبل أن تبعد كثيرا وجدت الشاب .. فى أثرها يعدو .. وحمل الطفل عنها واحتموا فى مدخل بيت كبير مهجور .. بعيدا عن منطقة الضرب ..
     ونظرت إليه وهو واقف بجوارها لأول مرة .. ورأته قويا وادعا .. كانت عيناه تنطق بالوداعة والطيبة وجسمه قويا مفتولا .. وسألته :
     ـ لماذا تعرض نفسك للموت من أجلى ..؟
     ـ لم أمت بعد ..! وأفعل هذا وأكثر منه من أجل الغلام ..
     ـ أنت غير متزوج .. وليس عندك أطفال .. فمن أين جئت بعاطفة
 الأبوة ..؟!
     ـ لا أعرف ..!! وانى أحس بقلبى يتمزق فى وقت الغارة .. وأنا أرى الأطفال .. وأود لو أصبح درعا كبيرا يطوقهم ويحميهم ..
     ـ هل تشعر بهذا الآن لأن والد " سمير " يحارب فى الجبهة ..
     ـ اننى لا أعرف زوجك يا سيدتى ..
     ـ هذا صحيح .. ولقد نسيت هذا كله ..!! وأرجو المعذرة ..
     ونظرت إليه .. وهو يحمل ابنها فى حنان صادق .. وكانت تود أن تسأله عن اسمه ..
     ومذ وقف بجوارها وهى تشعر بالاطمئنان وذهب عنها الخوف الذى كانت تحس به وهى تجرى فى الليل وحدها .. وتذكرت أن الحقيبة الصغيرة سقطت منها وهى تجرى مذعورة وفيها كل ثروتها وكل حليها .. ولكنها خشيت إن حدثته عنها أن يذهب ليبحث عنها فتصيبه طائرات الأعداء .. ولذلك كتمت عنه الخبر كلية .. وأحست فى تلك اللحظة بضآلة ما ضاع .. بجانب ابنها سمير ..
     وسألها الشاب .. بعد أن انتهت الغارة :
     ـ إلى أين كنت ذاهبة ..؟
     ـ لا أعرف .. أمشى وأمشى .. ويكفى أن سمير على صدرى ..
     ـ إذن .. نروح ..
     ومشت بجانبه .. إلى البيت ..
     وقبل أن تبلغ باب شقتها وجدت خادما فى العمارة يصعد السلالم خلفها وكان يحمل الحقيبة التى سقطت منها ..
     ولما أعطته بعض القروش لأمانته رفض .. وعجبت أن القنابل التى يلقيها الأعداء من طائراتهم غاصت فى الأرض .. ونبشتها وأظهرت الجواهر الخفية .. أظهرت الماس الكامن فى أعماقها .. أظهرت الجواهر النقية الكامنة فى النفوس والتى كان يغطيها التراب ..
     وكان الشاب وهو خارج فى الصباح إلى عمله .. يسألها عن حاجتها ويحمل إليها وهو عائد من الخارج كل ما تحتاجه .. وكان فى الليل .. يترك لها شقته ..
     وكان البواب .. لا يعنى بأحد مثل ما يعنى بها .. وكذلك كل خادم .. وكل رجل بقى فى العمارة .. الكل يسألونها عما تطلب ..
     وعرض عليها أحدهم أن ينقلها إلى الريف مع أسرته بعيدا عن الغارات .. ولكنها كانت ترفض ..
     كانت تود أن يأتى زوجها .. ويجدها كما تركها فى بيتها .. ولكن جرت الحوادث بسرعة .. وانقطعت أخباره .. حتى قطعت كل أمل وحتى جف دمعها .. وكانت تنظر إلى الغلام .. وترى فيه وجه والده .. ترى فيه سلوتها الباقية ..  
     وذات صباح خرج خلبل البواب ليصلى كعادته قبل الشمس وأصابه الأعداء برصاصة .. فسقط .. ولما علم الشاب الساكن فى الدور الأرضى بمقتل البواب .. تألم .. وأمسك بالبندقية وأصبح لا يبرح المنطقة ..
     وكان يرى الجنود المصريين يرابطون فى مواقعهم على رأس الشوارع .. والطائرات تغير وتلقى القنابل والرصاص يدوى .. أو يصفر .. 
     ولم يفكر فى شىء كما فكر فى " علية " وطفلها اللذين أصبحا فى حماه الآن .. فى حماه وحده ..
     وحزنت " علية " لموت البواب ولكنها لم تفكر فى أن تترك العمارة كما تركها غيرها ..
     وفى عصر يوم اشتد ضرب النار .. وبدأت معركة رهيبة .. وكانت " علية " ترى الشاب الساكن تحت يتحرك فى المنطقة كالنحلة .. ولا يخيفه الرصاص المتساقط فوقه عن الوصول إلى بغيته ..
     كان يقف على النواصى .. ويقيم المتاريس .. ويحمل للجنود المحاربين الماء ..
     ولما سكت مدفع أحد الجنود البواسل .. حل الشاب محله فى الحال .. وأخذ يطلق النار بقوة .. وأسقط طائرة إنجليزية ورأت علية طائرة أخرى تهوى وفى ذيلها النار ..
     وحميت المعركة .. وتكاثرت الطائرات فوق رأسه .. فصمت بعد أن أطلق آخر رصاصة ..
     وكانت نظرته الأخيرة متجهة إلى نافذة " علية " ..
     وتخشب جسم " علية " لحظة ثم وجدت نفسها تندفع بسرعة نحو الباب الخارجى وعلى بسطة السلم وجدت زوجها صاعدا .. وعلى وجهه سحنة من خرج لتوه من المعركة ..
     ودفنت رأسها فى صدره وأخذت تبكى وهى تضمه بقوة ..
     وسألته :
     ـ هل .. انتقمت لنا من هؤلاء الأندال ..؟
     ـ أجل .. وسأنتقم ..
     ودخل يقبل الصغير .. وكانت الساعة تدق الخامسة .. وكأنها تنشد نشيدا حماسيا ..





=====================================
نشرت فى صحيفة الشعب ـ العدد 171 ـ بتاريخ 23/11/1956وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=====================================













































الرجل الاشول


     حدث فى أعقاب الثورة المصرية سنة 1919 أن خرج جنديان انجليزيان من المعسكر فى مدينة أسيوط .. وسارا على الخيل بين المزارع .. وكان الجو لطيفا فأبعدا فى السير .. ولم يستطيعا مقاومة الرغبة فى الاستكشاف .. فانطلقا بالخيل على الجسر حتى دخلا القرى التى توجد شرق الخزان .. وقابلهما الفلاحون بالهدوء والصمت .
     وفى اليوم التالى رآهما الفلاحون مقبلين من بعيد .
     وفى اليوم الثالث كانا يعدوان بجواديهما كأنهما فى حلبة السباق .. فنفرت البهائم العائدة من الحقول .. وذعر الغلمان ودهس أحد الجوادين المنطلقين غلاما صغيرا كان يلعب بجوار الترعة .. فقتله ..
     وقبل أن يبلغ الجنديان المدينة .. أصابت راكب الجواد الاشهب الذى قتل الغلام رصاصة فسقط على الجسر .
     وحوصرت القرية القريبة من مكان الحادث وفتشت وضرب أهلها بالكرابيج ..
     ورغم هذا لم يستدل على الفاعل ..
     واستمر الحصار وكان والد الغلام القتيل متوفيا فقبض على كل من يمت له بصلة .. ومنع الأهالى من الخروج إلى الحقول بعد الغروب .. واستمر التحقيق اسبوعا بطوله ..
     وقرر الطبيب الشرعى أن القتيل أصيب من رصاصة أطلقت من مسافة بعيدة تزيد على مائة متر .. وأن الرامى أصاب سويداء القلب ، وأنه لم يحدث فى حياته كطبيب أن رأى مثل هذا التصويب ..
      ورأى المحققون أن القاتل لابد أن يكون مدربا تدريبا متقنا على ضرب النار .. ويرجح أن يكون من عساكر الرديف ..
     وقبض على كل عساكر الرديف فى المنطقة .. وقدم من القاهرة جنود بلوك الخفر وعلى رأسهم ضابط مصرى اشتهر فى أيام الثورة بكراهيته الشديدة للمصريين .. وأخذ فى جمع السلاح من كل بيت فى القرية ..
     وكان يحلف الرجل على المصحف .. فإذا أخرج ما عنده تركه .. وإذا لم يكن لديه سلاح .. شد الجنود وثاقه وعلقوه فى حديد الشبابيك .. وأخذوا يضربونه ضربا مبرحا .. حتى يغمى عليه .
     وبدأ بالأعيان .. وبالرؤوس .. ليكون الاذلال تاما .. وتكومت قطع السلاح .. وظل الأهالى يصرخون من التعذيب حتى قارب الليل منتصفه .. ثم تعشى العساكر وناموا ..
***
     وفى الصباح القى الضابط نظرة على قطع السلاح التى جمعها .. وأخذ يجرب بعضها فى ضرب النار .. ثم أخرج مسدسة .. وأخذ يصوب .
     وكان يصيب الهدف من كل الأبعاد .. ورسموا له دائرة بحجم القرش فأصابها من مسافة عشرين مترا ..
     وأخذ العمدة والأعيان يصوبون مثله .. ولكنهم كانوا يخطئون الهدف فى معظم الحالات .. وأخذت الضابط الحمية فسمح للأهالى بأن يشتركوا فى المباراة .. ولكن لم يبلغ أحد شأوه .. وظل هو المتفوق الذى ليس له ضريب .
     وأظهر براعته الخارقة بأن كتب اسمه على الحائط بالرصاص وصفق له الناس .. ورجع بكرسيه إلى الوراء وهو يضحك مزهوا ..
*** 
     ولم يكتف بهذا الانتصار .. بل فكر فى شىء مثير .. فقرر أن يقف أحد الخفراء فى الساحة بجوار حائط " الدوار " وعلى لبدته الحمراء .. بيضة دجاجة !!
     ومع كل ما فى المسألة من حماقة لم يستطع أحد أن يفتح فمه ..
     ووقف الخفير المسكين .. وطارت البيضة من فوق رأسه وصفق الناس .. وضحك الضابط ..
     وقرر أن يخلع الخفير اللبدة وأن توضع البيضة على رأسه وذهل الناس ونظر بعضهم إلى بعض .. ولكن لم يستطع واحد من الجالسين أو الواقفين أن يعارض هذه الرغبة ..
     ووضعت البيضة على رأس الخفير المسكين وامتلأت الساحة بالأهالى .. وكتم الناس الأنفاس .
     وخيم السكون واستقرت العيون كلها على رأس الخفير .. وكفت القلوب عن الخفقان .. واستعد الضابط ليضرب ضربته .
     وفى هذه اللحظة .. انطلق شىء وهو يصفر من فوق رأس الضابط .. وطارت البيضة ..
     وتلفت الضابط والناس مذعورين .. ووجدوا رجلا يقف وحده وراء الساحة .. ويمسك بيده اليسرى بندقية قصيرة .
     وصاح أحد الواقفين
     ـ حسين الاشول ..
     وظل الاشول هناك فى مكانه أكثر من دقيقة يرقب القوم فى الساحة بعينى صقر .. ثم وضع البندقية فى كتفه وبارح المكان .
***  
     وفى ساعة الظهر رأى الضابط من نافذة السيارة .. نفس الرجل الاشول .. يهبط بحمل صغير التل .. وعلى كتفه نفس البندقية .. فوضع الضابط يده على مسدسه .. وأخرجه من جيبه .. وهو يتابع الاشول ببصره .. ومرت لحظة رهيبة .. شعر الضابط بعدها بيده تعيد المسدس إلى مكانه ..
     ولما انطلقت السيارة فى أقصى سرعتها وغاب الرجل عن بصره .. كان الضابط يسائل نفسه فى تعجب ..
     ـ لماذا لم يقبض على الرجل .. بعد أن تيقن أنه هو الذى قتل الضابط الإنجليزى .. لماذا ..؟ ولماذا حتى لم يجرده من سلاحه ؟
     وأشعل سيجارة شعر بعدها بالراحة .
     وكانت السيارة قد اقتربت من المحطة ..
===============================     
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 75 بتاريخ 19/8/1956 واعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
================================   











































العربون

     كان اسماعيل عبد الكريم من رجال الأعمال المعروفين فى مدينة القاهرة .. وقد شغل منذ بداية الصيف بزواج ابنه إبراهيم مشغولية تامة جتى استغرق الفرح والتفكير فيه والإعداد له كل وقته ..
     وفى الأسبوع الذى قبل العرس مباشرة أصبح كالنحلة الدوارة .. ينتقل من مكان إلى مكان .. فذهب من شرق المدينة إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها .. اتفق مع الطاهى الذى سيعد البوفيه ومع المغنى الذى سيشنف الآذان .. ومع الراقصة التى ستزف العروس .. ومع الفرقة الموسيقية التى ستعزف فى الحديقة ..
     وجلس مع ابنه يعد بطاقات الدعوة ويرسلها بالبريد .. ثم أخذ يمر شخصيا على كبار المدعوين فى منازلهم ومكاتب عملهم ..
     ولما كان ابراهيم وحيد الأسرة ووالدته تريد أن تفرح به .. فقد أصرت على أن يكون الفرح حديث الناس كافة .. وأن تكون الراقصة التى ستزف العروس وترقص فى الحفل من أحسن الراقصات ..
     وبحثوا كثيرا .. وأخيرا اهتدوا إلى راقصة شابة تجيد فنها ومعروفة بين أترابها وقبلت الرقص والزفة بمائة جنيه .. وأخذت نصف المبلغ مقدما كعربون .. 
     وسارت الحياة فى اعداد الفرح والكل فى سعادة غامرة .. ولكن حدث مالم يكن فى حسبان أحد .. فقد توفى خال العريس فجأة .. ومع أنه كان سكيرا وفقيرا ومهملا .. وموته متوقعا فى كل لحظة .. ولكن احياء الفرح فى اسبوع وفاته فضيحة فى نظر الناس .. ففكروا فى التأجيل .. ولكنهم وجدوا أن التأجيل لاينفع فى هذه الحالة لأن أيام الحداد يجب أن تستمر سنة على الأقل ..
     وأخيرا .. ومع اللعنات التى صبها أهل العريس وأهل العروس على المرحوم .. عدلوا عن الفرح .. وقرروا أن يكتفوا بحفلة شاى صغيرة للأقربين من الأسرتين حدادا على المرحوم .. وألغيت الموسيقى والرقص كلية ..
*** 
     وكان أول شىء فكر فيه السيد اسماعيل بعد هذا القرار هو أن يستعيد الخمسين جنيها التى دفعها للراقصة كعربون ..
     فكلف ابنه ابراهيم بأن يذهب إليها ويسترد المبلغ .. ولكن ابنه عاد إليه وأخبره بأن الراقصة سافرت إلى حفلة فى الزقازيق وستعود بعد يومين .. وبعد اليومين أخبر ابراهيم والده ووجهه محمر بأنه لم يستطع أن يسترد المبلغ .. وأنها راوغته .. فشتمه والده واتهمه بالتهاون .. وأنه لا يستطيع أن يحسم الأمور وقرر أن يذهب إلى الراقصة بنفسه ..
     وبعد غروب يوم .. لبس السيد إسماعيل بدلته .. وذهب إلى بيت الراقصة فى منيل الروضة .. وكانت تقيم فى عمارة شاهقة على النيل .. وصعد الأسانسير إلى شقتها ..
     وشعر الرجل بعد أن خرج من باب الأسانسير بطراوة ارتاحت إليها نفسه وبنسمات النيل المعطرة تهب عليه من المنافذ الصغيرة البحرية التى فى الممر الطويل .. وعندما ضغط الجرس وأدخلته الخادمة إلى الصالون .. لعن بيته فى حى السكاكينى ولعن الحرارة وسوء نظام المساكن هناك ..
     وقالت له الخادمة فى أدب ورقة .. بعد أن ذكر اسمه ..
     ـ الست تعبانه شوية .. اتفضل جوا ..
     وأشارت إلى الداخل .. ولكنه تجاهل هذه الإشارة وظل جالسا فى مكانه ..
     فكررت قولها :
     ـ اتفضل ..
     فنهض وراءها وأدخل على الست وكانت نائمة فى الفراش .. أحس بالخجل وهو يراها فى غلالة رقيقة وكان يود أن يستقبل الباب .. ولكنها أشارت إلى كرسى بجوارها ..
ـ اتفضل .. شرفت .. متأخذنيش .. مش قادرة أتحرك .. تعبانه شوية ..
ـ سلامتك ..
ـ قطع السفر للأرياف .. مش مسافرة تانى .. لو دفعوا لى عشرة آلاف جنيه ..
ـ عندك حق .. السفر متعب خصوصا فى الصيف ..
ـ تصور ضربونا بالرصاص ..!
فنظر إليها فى انزعاج .. وأشفق على جمالها وشبابها من هذا المصير .. واستدركت فى دلال :
ـ كانوا بيزفوا العروسة بضرب النار .. ورصاصة والنبى كانت حتصيبنى هنا فى قلبى ..
ووضعت يدها على قلبها ..
فقال وقد استقرت عيناه على صدرها ..
ـ سلامة قلبك ..
ـ مرسى .. أنت شرفتنا خالص .. كبايتين ليمون يا وحيدة .. كترى الليمون ..
ـ مرسى خالص .. هو ابراهيم ما فاتش على حضرتك ..
ـ فات .. وقال لى على المرحوم .. البقية فى حياتك ..
ـ متشكر خالص ..
ـ هو يعنى ما اخترش غير الأسبوع دا بالذات .. الله يرحمه ..
ـ تقولى إيه .. لازم يتعب الناس فى حياته ومماته .. كان متعب وياما تعبنى ..
ومضت فترة صمت .. وكان خلالها ينظر إليها بامعان .. من قدمها الصغير العارى إلى شعر رأسها الأسود الشديد اللمعان ..
كان كل شىء فيها جميلا وناضرا .. ويتفجر بالشباب والحيوية .. وكان يود أن يدخل فى الموضوع الذى جاء من أجله .. ولكنه كان كلما فتح فمه ليحدثها عن العربون كان يخجل .. ويتحدث فلا شىء آخر .. وكانت ساحرة فى حديثها وذات دلال ومضى أكثر من نصف ساعة ..
وأخيرا تشجع وسألها وهو يشرب القهوة ..  
ـ ابراهيم كلمك عن الفلوس ..؟
ـ أيوه ..
ـ وقلتى له .. لأ ..
ـ لأ .. ازاى ..! دا فهم غلط ..
وضحكت ..
ـ حا أجيبهم حالا .. آى .. والنبى ما قادرة أتحرك .. مت .. هات إيدك ..
ـ معلش أنت تعبانه دلوقت .. خليكى مستريحة .. لما نشرب القهوة ..
وكان وهو يتحدث ينظر إليها بقوة .. فقد انحسر الثوب عندما همت بالنهوض عن ساقيها ونصف فخذيها .. ولم يكن يدرى أهذه الحركة جاءت عفوا .. أم متعمدة .. ولكنه شعر بلذة غامرة وهو يرى بياض بشرتها تحت القميص .. وعجب كيف تكشف هذه الكنوز كلها مرة واحدة وتتجرد من ملابسها وترقص .. وكيف يكون حال الناس أمام هذه الفتنة .. ولعن المرحوم لأنه حرمه من رؤية هذا المنظر الساحر ..
وقالت فى دلال وهى ترشف القهوة .. وتحرك شفتيها الحمراوين ..
ـ لكن حضرتك صغير وشاب .. إزاى أصبحت بسرعة والد العريس ..؟
ـ أصلى أجوزت وأنا صغير كنا زمان كده ..
ومع أنه أكبر فى الواقع من جد فقد استراح إلى هذا الكلام وشعر بحلم الشباب يداعبه من جديد ويلوح فى أفق حياته ..
وقالت وقد شعرت بعينيه تستقران عليها وتلاحقانها بنظرة جائعة ..
ـ والعروسة تبقى قريبتكم ..؟
ـ من بعيد ..
ـ ربنا يتمم بخير .. بس لازم تدعينى فى الفرح .. بلاش رقص .. وبلاش زفة .. لكن نفسى أشوف العروسة .. اللى مقسمش أزفها ..
ـ طبعا .. حتشرفينا ..
ـ مرسى خالص ..
ـ شقتك جميلة ..
ـ عجبتك ..؟
ـ كل حاجة فيها حلوة ..
وكان يود أن يضيف .. وأنت أحلى الكل .. ولكنه خجل من نفسه ..
ـ دى فيها فرندة جنان .. بعد شوية .. لما أمسك نفسى حاوريها لك ..
وأضافت وهى تنظر إليه بحنان .. وقد رفعت ثوبها وسوته على ساقيها دون موجب ..
ـ كل ما أرجع من ألأفراح .. والقرف .. بقعد فيها .. وحدى .. لغاية الصبح ..وأنسى نفسى ..
ـ عايشة وحدك ..؟
ـ آه ..
ـ مفيش حد ..؟
ـ مفيش الرقاصة مين حيجوزها بالليل ولا بالنهار .. لازم يكون رقاص .. زى فريد استر ..
وضحكا ..
*** 
     وأهاج الضحك صدرها .. فسعلت .. ونادت بصوت خافت :
     ـ يا بنت يا وحيدة ..
     فلم ترد الخادمة ..
     ـ لازم نزلت للمكوجى .. بتحب ..
     وحاولت أن تنهض من فراشها .. وهى تبدو فى أشد حالات التعب .. فقال لها اسماعيل مشفقا على حالها ..
     ـ عاوزه حاجة ..؟
     ـ وكمان حتعبك .. قلة ذوق .. قزازة الدوا .. دى .. الملعقة .. مرسى
ووجد نفسه يناولها الدواء بالملعقة .. وكانت تشرب فى تمهل وتنظر إلى عينيه .. وهو واقف منحن عند رأسها .. وكانت قد حسرت قميصها عن صدرها فبدا عاريا كله تحت بصره .. وشعر باضطراب عندما لامست يده عرضا كتفها العارية ..
وعاد إلى مكانه على الكرسى وأخذ يدخن .. وكانت ترقبه بعين نصف مغمضة .. وهى مبتسمة .. وتناولت سيجارة مثله وأشعلتها .. وراقه وضع السيجارة بين أناملها .. كانت تمسكها برقة محببة .. وكانت طريقتها فى التدخين فريدة ..
وسره أنها مع كونها غير متعلمة .. ومن طبقة دون طبقته لم توجه إليه سؤالا مباشرا عن حياته وعمله .. وأدرك أن الحياة علمتها الكثير ..
وكان يود أن يسألها :
ـ ألم تحبى ..؟
ولكنه لم يجرؤ على هذا السؤال .. وكان يود أن يقول لها بأنه استراح إلى رؤيتها .. وأحبها لأنها شابة وجميلة .. وتبدو عزيزة غير مبتذلة .. رغم حرفتها .. وأنها ستعوضه عما فقد من شباب ولهذا يود أن يستريح على صدرها .. من حين إلى حين ..
***  
وظلا صامتين مدة .. ثم نهضت وتركت الفراش .. وهى تقول : قرفت من النوم .. وتعبت .. تعال .. أوريك الفرندة ..
ومشى وراءها .. وذيل الروب المشجر .. الذى ارتدته يلحس البلاط .. وكانت الفراندة رائعة حقا .. وتحتها النيل يجرى .. وفوقها السماء الزرقاء .. وجلسا على كرسيين طويلين مريحين .. وكانت هى جالسة تلعب بقدمها العارية فى لطف .. وتحرك أصابعها الرقيقة .. وقدمت له كأسا من الويسكى .. فشرب وشربت .. وتحدث معها ونسى نفسه .. ونسى زوجته ونسى ابنه ونسى كل شىء يتصل بالحياة الخارجية وحصر نفسه فى وجودها .. وبيتها هذا الجميل ..
وكان النور خافتا ومريحا .. وشاطىء الجيزة أمامه بعماراته الجديدة الشاهقة وبفيلاته الرائعة .. يتلألأ بالأنوار التى تتراقص معكوسة على صفحة الماء ..
***  
وعندما استأذن ليخرج .. قالت له برقة ..
ـ استنى لما أجيب لك الفلوس ..
وغابت لحظة .. ثم عادت بورقة واحدة من ذات الخمسين جنيها .. ومدت أناملها :
ـ اتفضل ..
وفى أثناء هذه الحركة .. شعر بها تقترب منه وتلتصق به .. ولم يتناول منها الورقة .. وانما اقترب منها جدا ..
فنظرت إليه مبتسمة .. فالتصق بها ومال عليها وطبع على كتفها قبلة خفيفة فقفزت فى دلال .. وهى تدفعه فى حركة رشيقة .. إلى الكنبة .. وسقطا عليها معا ..
*** 
 وبعد زواج ابراهيم بيوم واحد .. كان السيد اسماعيل يسير مسرعا فى شارع النيل وقد لبس أحسن ملابسه وتعطر .. ثم دخل العمارة التى تقيم فيها الراقصة .. وعندما ضغط على زر الأسانسير كان قلبه يخفق بشدة ..
========================================= 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 187 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " ـ الناشر دار روز اليوسف سنة 1959 
========================================



صراع

كان قطار الظهر الذاهب إلى الإسكندرية مكتظا بالركاب .. وكان الزحام على أشده فى الدرجة الثالثة .. فكان الناس يقفون على السلم وبين العربات .. ويتراصون كتلا بشرية فى الممرات ويسدون المنافذ .. بأجسامهم وحاجاتهم .. ومع كل هذا الزحام .. فإن الباعة كانوا ينفذون من ممر العربات كما تنفذ الجرزان ويصيحون .. سميط .. سجاير .. كازوزة ..
وعندما تحرك القطار ضاع صياحهم مع صفيره .. وكان الركاب من الأفندية ولابسى الجلاليب .. ومن الخواجات .. ومن الذين يركبون القطار فى يوم الخميس ليشموا نسيم البحر .. ومن الموظفين الذين يركبون بالمجان .. ويزحمون كل الدرجات .. ومن الريفيين الراجعين من زيارة الأسياد فى العاصمة ومن عيادات الأطباء .. ومن المرضى وطلاب الحاجات الذين لم تتحقق أمانيهم فى كل البلاد .. فركبوا إلى السيد البدوى متعلقين بآخر خيط من الرجاء ..
وعندما خرج القطار من مزارع شبرا .. وخف دخانه .. تحرك رجل يلبس سترة باهتة من طرف العربة .. وأخذ يضع فى حجر كل جالس قرصا من الحلوى وورقة مطوية ..
ومن الركاب من قرأ الورقة وقلب شفتيه .. ومنهم من لم يعرها مجرد التفاتة .. وبعد أربع دقائق على التحديد عاد الرجل يجمع الأوراق والأقراص فى هدوء كأنه تعود هذا الصدود .. ثم غاب فى جوف العربة الملاصقة ..
***
ولكنه ظهر مرة أخرى بعد ربع ساعة وأخذ يوزع الأقراص من جديد ويقول وفى صوته هزة الانفعال :
ـ بقرش تعريفة .. فقط يا أسيادنا .. أريد أن أوكل العيال ..
وهنا دوى صوت كأنه يخرج من جوف ميكروفون ..
ـ إشتغل يا أخى ..
وتقلص وجه الرجل وهو يرد :
ـ أنا باشتغل .. يا بيه ..
ـ هل هذا شغل .. إنها شحاذة .. طريقة معروفة للتسول .. لا توجع دماغنا من فضلك .. روح .. روح ..
وكان المتحدث أفنديا ضخما يلبس حلة أنيقة ..
وبعد أن رمى البائع بهذه القذيفة صمت وقلب شفتيه احتقارا .. وكان هناك شخص ثالث يرقب المعركة فى هدوء وسكينة من مكانه هناك فى مؤخرة العربة ولكنه يبدو عليه أنه لا يحب أن يشترك فيها بلسانه أو قلبه .. وكل ما فعله شعبان بعد أن هدأت الزوبعة .. هو أن حمل جردل الكازوزة .. وانتقل به إلى عربة أخرى .. وقابل وهو يتحرك بائع الأقراص فتعمد أن يحتك به ويدفعه دفعة قوية بكتفه ..
وقال له :
ـ روح .. مكان غير هذا .. بلا مضايقة ..
فلم يرد بائع الأقراص وحمل صندوقه الصغير وانسحب ..
***
وعندما وقف بائع الكازوزة شعبان أمام الرجل الأنيق الضخم الذى أثار المعركة تناول منه زجاجتين من العصير .. وقدم لسيدة جميلة تجلس أمامه زجاجة .. فرفضتها شاكرة رغم إلحاحه فلم يردها للبائع بل وضعها بجانبه وهو يحدث نفسه :
ـ خليها .. بعد شوية .. ستشرب ..
وكان يجلس فى الطرقة الملاصقة لباب الديوان .. امرأة فلاحة .. وضعت غلاما مريضا يحط عليه الذباب فى حجرها .. وغطته بأكثر من خرقة بالية .. وكانت تشكو لشخص آخر قد تجمع فى الممر .. من الأطباء فى القاهرة .. وتحكى أنها ظلت يومين كاملين .. تتردد على أحدهم .. دون أن تستطيع الدخول .. وأن التمورجى كان يراوغ ويدخل من يشاء .. وقال لها الرجل :
ـ كنت أعطيه بريزة ..
ـ يا ابنى وأنا معايا كام بريزة ..
ورفعت رأسها إلى الكمسارى الذى قدم يفتش على التذاكر .. ويقول :
ـ قاعدين هنا ليه .. دى درجة ثانية .. لازم تدفعوا الفرق ..
ـ يا ابنى ما أنت شايف الناس على بعض نروح فين .. أنه حشر ..
ـ ليس هذا شغلى .. إنها التعليمات ..
وطال الجدال بين الكمسارى وبين من وقف من الركاب فى ممر هذه العربة .. وأخيرا تركهم وذهب ..
وقال الرجل الضخم وهو يوجه كلامه إلى السيدة :
ـ لأنهم بجلاليب تركهم .. ولو كنت أنا وأنت فى الدرجة الأولى الآن .. كان طوقنا ثلاث مرات .. بلد ..!!
وكانت السيدة قد أخذت تشرب زجاجة العصير وكان هو يسألها عن وجهتها .. ويحرك يده على الكرافتة .. ويبدو كأظرف وأرق إنسان على وجه الأرض .. وتطور الحديث العادى إلى الفكاهة حتى ضحكت السيدة وأخذ يسبح معها فى جو من الأحلام ..
ولكن قطع عليه هذه الأحلام اللذيذة قرص من الحلوى سقط كالحجر على فخذه .. فتناوله بيده وهو ينتفض غضبا وألقاه من النافذة .. وعادت يده الفارغة فى خطف البرق تقرع وجه البائع الكئيب ..
وحمل البائع الصفعة على خده الأزرق وانسحب فى ذل الضعيف ..
وكان بائع الكازوزة شعبان قد رأى بعينيه وهو واقف فى مكانه هناك الضربة وسمع رنينها .. فمرت على وجهه ابتسامة باهتة ثم حول وجهه إلى مدينة بنها وقد بدت من بعيد ..
***
وغادر القطار محطة بنها .. وانطلق مسرعا حتى ظهرت هزاته القوية ترج أجسام الركاب .. وفى محطة طنطا حمل الرجل الضخم حقيبته الصغيرة فى يده .. وودع السيدة وهو يتحين لقاءها فى المصيف ..
ونزل إلى الرصيف منتصب القامة منفوخا وحذاءه يهز الأرض .. وعلى سلم النفق أدركه شىء عجيب .. فقد عاجله شعبان بضربة قوية .. فنزل يتدرج على سلالم النفق مقلبا ظهرا لبطن .. كالبرميل ..
وقفز بعدها شعبان فى الفضاء ثم غاب فى جوف النفق بسرعة الصاروخ ..
========================== 
نشرت القصة فى مجلة الأدب بالعدد رقم 4 بتاريخ 1/6/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=========================

















الورقة

عرفت حامد المنصورى .. من سنين طويلة وكان فنانا يملك ورشة صغيرة للتجليد فى شارع الشواربى بحى قصر النيل .. وكان قد ورث صناعة التجليد عن أبيه فأجادها وبرع فيها حتى غدا من أشهر المجلدين فى مدينة القاهرة ..
وكان عملاؤه قلائل ولكنهم من الموسرين الذين يشترون الكتاب ليجلدوه تجليدا فخما ويضعوه فى الصالون للزينة ..
وكان حامد يتقاضى أجرا عاليا .. لأنه يجيد صنعته ويبرز فيها .. ولتفوقه فى زخرفة الجلدة والابداع فى إخراجها ..
وذهبت إليه لأول مرة لأجلد مخطوطا أعتز به .. ثم ديوانا نادر الطبع لعمر الخيام .. ولما أعجبنى فنه .. وبراعته أصبحت أحمل إليه كل كتاب جديد ليكون الصف كله من طراز واحد ..
وكان يعجبنى فى الرجل ذوقه فى اختيار الألوان .. فكتب التاريخ عنده غير كتب العلوم .. والقصة تختلف فى لونها عن كتب التراجم والسير ..
وكان يعمل باتقان وفى هدوء دون عجلة .. ومواعيده بعيده المدى وعنده عاملان فقط غلام صغير يشتغل على المقص .. وشاب اسمه عبد الحليم رباه من الطفولة فى المحل .. ولما كبر وبلغ مبلغ الرجال زوجه من ابنته سنية ..
وكان عبد الحليم فى الخامسة والعشرين من عمره ناحلا طويل شعر الرأس منفوشه .. وكنت كلما رأيته أتصور توسكانينى وهو يدير الأوركسترا ..
وكان يعمل فى دكان حامد كأجير .. ثم أخذ حامد يشكو منه ويضيق بتصرفاته .. وبدأ الصراع بينهما يستفحل ويبلغ أشده عندما أخذ الشاب يعمل على أن يستقل بعمله وينفصل واستمر النزاع بينهما وأصبح عبد الحليم يتركه شهرا ثم يعود إليه .. وأخيرا تركه نهائيا ..
وكان حامد قد كبر وشاخ .. وظهر عليه الضعف .. وكل بصره وقصر .. ولكنه رغم هذا كان يعمل ولم يغلق محله ..
وكنت أذهب إليه كل شهرين أو كل ثلاثة شهور مرة .. فأجده مكبا على الطاولة ويده فى حركة دائبة .. وفوق عينيه منظار سميك ..
وكان بصره قد ضعف إلى درجة أنه أصبح لا يعرفنى إلا بعد أن يسمع صوتى .. وكان يتناول منى الكتاب ويضعه جانبا وهو يشكو من عجز الشيخوخة .. ويأخذ يحدثنى .. بعد أن يرفع المنظار عن بصره ليستريح .. عن نوادر الأثرياء الذين كانوا يجلدون عنده الكتب .. وترفهم الزائد البالغ حد السفه .. وكيف أن أحدهم حمل إليه مجموعة من مذكرات كازانوفا فى ثمانية عشر جزءا وطلب تجليدها كلها بماء الذهب فكلفه ذلك أكثر من مائة جنيه .. وكيف جلد الديكاميرون بجلد السمك .. وألف ليلة .. والأغانى .. وكان يتقاضى أجورا كبيرة ويربح كثيرا ولكنه رغم كل ما ربحه لم يعمل حساب المستقبل .. ولم يفكر فى الشيخوخة حتى نزلت به أخيرا وأقعدته عن الكسب ..
***
واشتعلت الحرب العالمية الثانية .. وشمل بلادنا الظلام وسقطت علينا القنابل ..
وكنت إذا حدثت غارة وأنا قريب من دكان حامد .. أسرع إلى هناك لأنه فى بدروم .. وأقل المساكن المحيطة تعرضا للخطر .. فأجده جالسا على كرسى فى الظلام وقد وضع عليه حشية واسترخى .. ويسمع صوتى فيرحب .. ويقدم لى كرسيا ..
ويقول :
ـ لعنة الله على الظلام .. تصور أننى أخاف على كتب الزبائن .. أن تسرق أو تسقط عليها القنابل .. أكثر مما أخاف على حياتى ..
ـ هل الدكان ملآن ..؟
ـ أبدا .. الشغل قل كما تعرف .. ولكن أخاف على الكتاب الواحد ..
ـ ذلك طبع الصانع الفنان ..
ـ إن الحرب جعلتنى أفكر فى الكتب .. وفى صنعتى .. فمنذ ستين سنة وأنا أقلب الكتب فى يدى وألمسها برفق وأسويها وأمسح عليها بحنان .. حتى أصبحت قطعة من لحمى .. أننى أرى بين سطورها النور الذى يبدد كل ظلام يعم البشرية ولكنها لم تستطع فى وقت ما أن تمنع الحروب .. وهذا يحزننى ..
ـ لأن الحرب ظاهرة طبيعية .. لا بد أن تقع كما تقع الزلازل والبراكين .. لا بد أن تقع مادام الإنسان موجودا على الأرض ..
ـ تعنى ستظل أزلية ..
ـ بالطبع ..
ـ وقانا الله من شرها .. وشر بنى آدم ..
وكان يقف على باب دكانه بعض جيرانه يتحدثون فى أثناء الغارة وكانت الغارات تستمر أحيانا إلى الفجر .. فكان الرجل إذا يأس من عودة النور يغلق أبوابه .. ونمشى معا حتى نفترق على ناصية شارع الساحة ..
***
ولما طالت الحرب ذهبت إلى الريف .. وعدت إلى القاهرة .. بعد توقف القتال .. وكنت قد تركت مجموعة من الكتب عند عم حامد فذهبت إلى حانوته .. وأنا أتوقع أن العمارة ضربت .. وذهب كل شىء مع الريح .. من كثرة ما سمعت من الإشاعات فى الريف .. ولكننى وجدت العمارة فى مكانها والدكان سليما .. ولكنه مغلق .. وسألت الجيران عن صاحبه .. فقالوا لى أنه أحس ببعض التعب فروح ليستريح ..
وفى اليوم التالى وجدته فى الدكان وسر لرؤيتى فقد شغله غيابى حتى توقع أن يكون قد أصابنى مكروه ..
وأعد لى الكتب .. ودخل فى أثناء ذلك شاب المحل .. وسأله :
ـ فين الكتب ..؟
ـ أهم ..
ـ حاضر .. أشوف واحد ..
وأخذهم .. وخرج الشاب ..
ونظرت إلى حيث أشار عم حامد فوجدت صفا من الكتب المجلدة وقد تراكم عليها الغبار ..
ووجدت هذه الكتب فى مكانها .. وعليها نفس الغبار .. فى كل مرة كنت أذهب فيها إلى الدكان ..
فسألت عم حامد عنها .. فقال لى أنها كتب رجل أجنبى .. جاء بها ليجلدها .. ولم يأت ليأخذها .. وقد مضى على ذلك أربع سنوات .. ولا يدرى إن كان الرجل قد مات فى الحرب .. أم رحل عن هذه الديار .. وقد تعب فى البحث عنه ولكنه لم يستطع الاهتداء إليه إطلاقا .. وقد كلفته هذه الكتب كثيرا فى تجليدها ..
فقلت له :
ـ بعها ..
ـ حاولت .. ولكنهم لم يعرضوا أكثر من خمسين قرشا .. وتجليدة الكتاب الواحد كلفتنى أكثر من هذا المبلغ .. وأخذت أقلب .. فى هذه الكتب .. فوجدتها عبارة عن روايات بالفرنسية .. والإنجليزية .. وبينها كتاب واحد عن النيل لأميل ليدفى .. وقلت له :
ـ تبيعهم لى ..
ـ تفضل يا ابنى .. وادفع ما يعجبك ..
ـ سأجىء يوم الإثنين لآخذها .. وسأعطيك أربعة جنيهات .. واعتبر الكتب أمانة عندى وإذا ظهر صاحبها فى أى وقت .. خذها ..
وسر الرجل كثيرا من هذا الكلام ..
***
وفى يوم الإثنين وجدت الدكان مغلقا .. وتقدم صبى فى دكان مجاور فدلنى على بيت الرجل وكان فى حارة الهدارة بعابدين .. وكان يقيم فى الطابق الثانى فى شقة صغيرة .. وفتحت لى سيدة شابة الباب وسألتها عنه .. فقالت :
ـ تفضل .. هو فى الفراش .. عيان شوية ..
ـ من فضلك قولى له سالم عاوز يشوفك ..
ـ طيب تفضل ..
ودخلت بيت الرجل لأول مرة .. وكان أثاثه بسيطا .. عتيقا .. ولكنه نظيف .. ومرتب .. وكان حامد يرقد على سرير من الحديد فى جانب من الغرفة .. وفوق رأسه على الرف صف من الأدوية .. وحالته ليست سيئة .. بل كان يأخذ أنفاسه بهدوء فطمأنته على صحته .. فظهر السرور على وجهه وحدثته عن الكتب ..
فقال :
ـ لما تشرب الشاى .. يا سنية ..
ولما سمعت إسم سنية عرفت أنها ابنته وزوجة عبد الحليم جاءت تزور والدها فى مرضه أو جاءت غاضبة ..
وشربت الشاى .. وأخرجت له ثمن الكتب ..
ـ سنية .. روحى مع سالم أفندى الدكان وأعطيه الكتب ..
ـ خليهم لما تخف ..
ـ لأ .. لازم دلوقت .. مين عارف بكره حيحصل إيه ..
ونزلت مع سنية إلى الدكان .. ومشينا فى الشوارع وهى بجانبى رقيقة وادعة .. وكانت بيضاء طويلة .. وترتدى ملاءة لفت جسمها .. وغطت شعرها .. ومع هذا فإن الساعد العارى .. كان يدير الرءوس .. وبقيت ماشيا بجانبها والناس تنظر إلينا حتى بلغنا المحل ..
وفتحنا الباب ودخلنا .. وكانت الظلمة شديدة فأشعلنا النور .. وأخذت تنفض بأناملها الرقيقة ما على الكتب من غبار .. وسألتها :
ـ أتعرفيننى ..؟
ـ طبعا .. من زمان وأنا أراك تجىء لوالدى فى الدكان ..
ـ هل أنت الصغيرة التى كنت تحملين له طعام الغداء ..
ـ أجل .. وليس له سواى ..
ـ وأمك ..؟
ـ ماتت من زمان ..
ـ زعلانه من عبد الحليم ..؟
فصمتت .. وظهر الاحمرار على وجهها .. وأخذ الدمع يترقرق فى عينيها .. فعلمت أن الفتاة تعانى من الصراع الشديد بين والدها وزوجها .. وهى بين جذب وشد بينهما .. حتى تلفت أعصابها ..
وقلت لها وأنا أديم النظر إلى عينيها الجميلتين ..
ـ معلهش أبوك رجل كبير .. وتعبان وميقدرش يمشى الدكان لوحده .. لازم توفقى بينه وبين عبد الحليم ..
ـ مش قادره .. ومن يومين اتخانقم مع بعض .. وأبوى راح اشتكاه فى المحكمة طالب نفقة لى ..
وبكت وهى تحزم الكتب بالدوبارة .. فأمسكت بالخيط الذى تشده .. ولمست يدى يدها .. فضغطت على أناملها الرقيقة .. فتوقفت عن ربط العقدة .. ونظرت إلىّ .. وكانت الملاءة قد انفرجت عن القميص الأزرق الذى يضم صدرها فركزت عينى لحظات وأنا ألاحظ خيوط القميص والعنق الأبيض العارى من كل زينة .. وأغمضت عينى وقلت  لها .. وأنا ممسك بيدها :
ـ وأنت عاوزه تطلقى ..؟
ـ أبدا .. عبد الحليم مسكين ..
فتركت يدها فى الحال .. وأنا أحس بمثل النار ..
وقلت لها :
ـ طيب أنا حاصلحكم ضرورى .. اليومين دول ..
فسرت ودعت لى بالخير .. وأغلقنا الدكان .. وافترقنا بعد أن وصلتها إلى بيت والدها ..
***
ولما بلغت بيتى لم أضع الكتب .. فى المكتبة .. رأيت أن أبقيها فى جانب إذ ربما يظهر صاحبها ويستردها .. وكنت لا أزال أقدر ظهوره .. وجعلنى هذا الخاطر لا أقرأها ولا أفتحها .. وشغلت بالحياة .. والكتب لا تزال ملقاة فى إهمال .. ثم رأيت التراب أخذ يعود مرة أخرى والصراصير قد أخذت تزحف عليها فقررت أن أضعها فى المكتبة .. وأخذت أمسح كل كتاب بعناية وأضعه على الرف ..
وفتحت واحدا منها أعجبنى شكله ونظرت فيه على أول صفحة فوجدت كلمة جور .. والجيم الثالثة كانت طويلة ودائرة ومتصلة بحرف آخر .. ولا أدرى إن كان جورج أم جورجيت .. وتحتها تاريخ 2/11/26 وقلبت فى الكتاب فوجدت مظروفا صغيرا أزرق بداخله .. ورقة مالية بمائة جنيه .. وكانت مطوية ثلاث طيات .. واشتدت ضربات قلبى .. ووقفت صامتا جامدا .. لا أريم لحظات .. وخيل أن أنفاسى تخرج من صدرى زفيرا من غير شهيق ..
ثم جلست أدخن وبعد ساعة رهيبة وضعت الورقة فى المحفظة ..
***
ومضى يوم كامل .. وخيل إلىّ أننى نسيت الأمر .. ولكننى استيقظت على صداع مروع .. وكان ذهنى طول الليل يشتغل كالدوامة ويدور حول هذه المسألة .. وأنا أحاول أن أتجاهل ذلك .. وأتحايل بمختلف الوسائل والحيل .. وأخيرا أقنعت نفسى بأنى دفعت ثمن هذه الكتب .. وهى ملكى وكل ما فيها من حقى ..
***
ولكن ذات ليلة .. وجدت نفسى أدور فى الحى الذى فيه الدكان ثم اقتربت من الشارع .. وسرت أمام الدكان ولمحت الرجل جالسا ساكنا أمام الطاولة .. أنه حى .. لم يمت ..
وخرجت من الشارع مسرعا .. ودرت فى حى قصر النيل .. وشارع شريف وشارع عدلى .. وأنا أتمهل وأتأمل .. ثم عدت إلى المكان الذى أدور حوله وألف ..
وبعد صراع رهيب عدت إلى البيت والورقة فى جيبى ..
وفى الليلة التالية ذهبت إلى الدكان .. ووجدت الرجل قد أغلق نصف بابه .. وأعد نفسه للرواح .. فأسمعته صوتى وأنا داخل ..
ـ مروح ..؟
ـ أيوه .. يا سالم أفندى .. كفاية الساعة بقت تسعة .. فيه حاجة ..؟
ـ لأ .. بس وجدت الورقة دى فى الكتب اللى اشتريتها منك ..
ـ ورقة إيه يا ابنى .. ياما بنلاقى ورق فى الكتب .. وجوابات وتذاكر سينما .. ودعوات عرس .. كله قديم وملوش فايده .. وبنقطعه .. تاعب نفسك ليه ..؟
ـ دى ورقة بفلوس ..
ـ فلوس ..
ـ أيوه .. ورقة بمائة جنيه لقيتها فى قلب كتاب .. من الكتب اللى اشتريتها منك ..
فأضاء وجه الرجل .. ثم قال بصوت هادىء :
ـ حلال عليك يا ابنى ..
ـ إزاى ..؟
إنها تخصك ..
وأخذت أحاور الرجل لمدة ربع ساعة .. بهدوء حتى لا يتجمع علينا الناس .. وأدلل له بالحجة الدامغة أنه رزق نزل عليه من السماء .. ليعوضه عن مرضه .. وشيخوخته وتعطله عن العمل حتى اقتنع تماما وأخذ منى الورقة .. وطواها فى محفظته ..
***
وحوالى الساعة الثامنة من صباح اليوم التالى رأيته من الشارع داخل قسم عابدين .. فتصورت عراكا جديدا حدث بينه وبين نسيبه عبد الحليم بعد أن أصلحت بينهما .. وصعدت مسرعا درجات القسم ..
ولما اقتربت من باب الغرفة التى شاهدته فيها .. رأيته يمد يده للضابط بورقة مطوية .. فتسمرت على الباب .. وتناول منه الضابط الورقة المطوية ذات المائة جنيه وبسطها .. وهو ينظر إلى وجه الرجل فى تعجب .. ولكننى لم أعجب .. فقد رأيت على وجه حامد فى هذه اللحظة نور السعادة التى لا يشعر بمثلها إنسان ..
==========================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 347 بتاريخ 19/5/1957 وأعيد نشرها فى كتاب " الزلة الأولى " سنة 1959
=========================

اسم القصة                       رقم الصفحة 
الليل والرجل  .....................   2
الآخرون     . ..................     9
ليلة فى بومباى   ................   18
المعجزات السبع  ................   26
فراغ   .........................    32
الأمواج            .............    41
الذئب  ................     ......  49
الباب الزجاجى  ............        54
الرفيق  .........................   59
فندق البحر ... .................   66
مجموعة الطوابع     ............  76
الغول    ......................... 86
العاصفة  .......................  97
الزلة الأولى  ..................  104
الليل والوحش  ................  112
الحقيبة  .......................  120
الماس  ........................  132
الرجل الأشول    .................139  
العربون   ....................... 143
صراع       .... ..........       150
الورقة  .........................             154